محمد محمود شحادة

يعد هاجِسُ التوازُنِ الإقليميّ بين طُهران وإسلامآباد في السنواتِ الأخيرةِ عاملاً مؤثراً في التحوَّل إلى ملفٍّ يمكن تسميتهُ بجيوسياسيٍّ مركزيٍّ، حيثُ يجمع بين فرصِ التعاونِ من جهةٍ ومخاطرِ التوتُّرِ في المنطقةِ من جهةٍ أُخرى.
فماذا عن طابعِ العلاقةِ المستَجِدَّةِ بين باكِستان وإيرانِ؟ وهل يمكنُ لدورِ باكِستانِ النوويِّ أنْ يَكونَ عاملَ منعٍ أو رادعًا أمامَ تهديداتٍ أميركيّةٍ أو إسرائيليّةٍ تجاهَ إيرانَ؟ وماذا عن تأثيرَ الصِّينِ كفاعلٍ استراتيجيٍّ بينَ البلدين.
لطالما كانت علاقاتُ باكِستانَ وإيرانَ تاريخيًّا تقومُ على جغرافيا مشتركةٍ بحدودٍ طويلةٍ ومصالحِ طاقيةٍ وتجاريةٍ واسعة، لكنّها كانت متأرجِحةٌ وذلك بسببِ خلايا أمنيةٍ محليةٍ ومجموعاتٍ مسلحةٍ تعملُ عبرَ الحدودِ وتهدّدُ الاستقرارَ بين البلدين، في العقدِ الأخيرِ شهدت العلاقاتُ فتراتِ تصاعُدٍ وتصَفُّحٍ دفعت الصِّينَ عندها أحيانًا إلى لعبِ دورِ وساطةٍ للحيلولةِ دونِ تفجُّرِ مواجهةٍ إقليميةٍ أوسعَ، كما أنّ فرض سياسة الضغوط الغربيّة على طهرانِ جعلَ من باكِستان شريكًا اقتصاديًّا حيويًّا لإيرانَ في ظلِّ قيودِ النظامِ الماليّ الدوليّ.
الترسانةِ النوويةِ الباكستانيةِ
لباكِستانَ تاريخٌ طويلٌ من التركيزِ على ردعِ الهندِ بوَصفِها الخصمَ الاستراتيجيَّ المركزيَّ، وقد كرّست سياساتها النوويةِ لهذا الغرضِ، مع غموضٍ مُتعَمَّدٍ في بعضِ بنودِ مواقفِها الرسميةِ، لكنّها في المقابلِ تحرصُ على إبقاءِ قدراتِها النوويةِ تحتَ رقابةٍ مؤسّساتيةٍ وسياسيةٍ تمنعُ انتقالَها أو استخدامها خارجَ سياقِ المصالحِ الوطنيةِ المعلَنةِ، هذا التوجّهُ يُفسِّرُ تجنّبَ إسلامآبادِ حتى الآن إعلانَ أيِّ مشاركةٍ مباشرةٍ في تصعيدٍ عسكريٍّ ضدَّ طرفٍ ثالثٍ في منطقةِ الخليج.
ماذا لو تزايدَتِ الضغوطُ الأميركيةُ أو التهديداتُ الإسرائيليةُ ضدَّ إيران؟ من الناحيةِ الواقعيةِ، باكِستانُ ليست في موضعٍ يُسمح لها بلعب دور حارِسٍ نوويّ أو مُقدِّمِ حمايةٍ عسكريةٍ علنيةٍ لإيرانَ، ولكن كيفَ ذلك؟ نعم، إنَّهُ سلاح العقوبات، فهو السلاحُ الديبلوماسي الذي يُستخدمُ دون اللجوءِ للقوة سيما مع الدول القويّة فكيف لو كانت نووية! فإنَّ أيةُ خطوةٍ علنيةٍ من باكستان من هذا النوعِ الردعيْ ستُعرّضُ باكِستانَ لعقوباتٍ دبلوماسيةٍ و اقتصاديةٍ جسيمة، وستُهدِّدُ مشاريعَها معَ شركاءٍ دوليينَ، لا سيما أنَّ باكِستانَ تعانيُ من ضغوطٍ داخليةٍ اقتصادية وأمنية لا تسمحُ لها بتحمُّلِ تكاليف صدامٍ مفتوحٍ مع واشنطن أو حلفائها، لذلك، من المرجّحِ أنْ يَتّخذَ دورُ إسلامآبادَ مساراتٍ أكثرَ تحفظًا مثل الدعم الدبلوماسي الخارجي لحقوقِ إيرانَ المدنيةِ في المجالِ النوويِّ، وتسهيلَ قنواتِ التبادلِ الاقتصاديِّ المحدودِ، وامتِناعها عن أيِّ دعمٍ عسكريٍّ صريحٍ قد يُفسَّر على أنهُ مشاركةٌ في المواجهة.
مع ذلكِ، يجبُ ألا نُهملَ أبعادًا ضمنيةً تجعلُ من باكِستانَ لاعبًا ذا تأثيرٍ غير مباشرٍ:
أولًا، من الناحيةِ الرمزيةِ، مواقفُ باكِستانِ السياسيةُ والدبلوماسيةُ تُؤثِّرُ في ميزانِ الدعمِ الإقليميِّ لطهرانَ.
ثانيًا، قدراتُها العسكريةُ ووجودُ شبكاتِ اتصالاتٍ إقليميةٍ يمكنُ استخدامها لتنسيقِ ضغوطٍ غيرِ عسكريةٍ أو لوجستيةٍ إذا ما ارتأتِ القيادةُ السياسيةُ ذلكَ في إطارِ حساباتٍ استراتيجيةٍ داخليةٍ وخارجيةٍ.
ثالثًا، فإنَّ أيَّ تهديدٍ عسكريٍّ واسعٍ ضدَّ إيرانَ سيفتحُ فضاءً دوليًا تزدادُ فيه أهميةُ العلاقاتِ بينَ دولٍ لا تريدُ انزلاقَ المنطقةِ إلى حربٍ شاملةٍ، وصياغةُ مواقفٍ متوازنةٍ من قِبَلِ باكِستانَ قد تُساعدُ في تخفيفِ المساراتِ التصعيديةِ.
دور الصين الحاسم
فبكينُ تتعاملُ مع طهرانَ وإسلامآباد بوَصفِهما شركاء استراتيجيِّين في شبكةِ مصلحتها الاقتصاديةِ والأمنيةِ سواء عبرَ الحزامِ والطريقِ دونَ الجنوحِ الى طريق الهند سيما في ظل توترِ العلاقات ِ بين باكستان والهند، أو عبرَ مشاريعِ الطاقةِ والبنى التحتيةِ، فالصِّينُ تملكُ الحافزَ لمنعِ أيِّ مواجهةٍ تُعطِّلُ الإمداداتَ الطاقيةَ أوْ تُهدِّدُ استثماراتِها، لذلك، تميلُ بكينُ إلى لعبِ دورِ الوساطةِ وتقديمِ الضمانات السياسية والدعم الاقتصاديّ لطرفيْنِ يجمعُهما الجوارُ والمصلحة، كما أنَّ الصينَ قد تستخدمُ نفوذَها لتقليلِ احتمالِ تدخلٍ خارجيٍّ يضرُّ بمصالحِها الإقليميةَ.
ما نودُّ قولُه بأنَّ باكِستان ليست بديلاً عن إيرانِ في معادلةِ الردعِ النوويِّ، لكنها لاعبٌ ذي قدرةٍ على التهدئةِ وخلقِ معادلاتٍ طارئةٍ، ولها القدرةُ على التأثيرِ غيرِ المباشرِ من خلالِ مزيجٍ من الدبلوماسيةِ والاقتصادِ والخياراتِ الأمنيةِ المحسوبةِ متسلحةً بكونِها بداً نووياً .
في المقابلِ، أيُّ تصعيدٍ أميركيٍّ أو إسرائيليٍّ كبيرٍ ضدَّ إيرانَ سيجبرُ الجميعَ على إعادةِ ترتيبِ أولوياتِهم، وسيصعد دورُ الصِّينِ كوسيطٍ وموازنٍ، فالواقعُ العمليُّ يُشيرُ إلى أنَّ السِلمَ في المنطقةِ سيُحافَظُ عليهِ عبرَ شبكاتِ المصالحِ المتشابكةِ أكثرَ منهُ عبرَ شراكاتٍ عسكريةٍ مباشرةٍ ومعزولةٍ.
