أنهت الجزائر رسميًّا مهام سفيرها في لبنان، المثقّف الموسوعي د. كمال بوشامة، وذلك بعد تعميم كلامٍ له قاله في ندوة فكريّة في بيروت واصفًا فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ب “راعي البقر المعتوه الذي يجب أن يكون في مستشفى المجانين”. وذلك بعد 10 أشهر فقط على تعيينه سفيرًا في لُبنان قادمًا من سوريا في أعقاب سقوط نظام بشّار الأسد.
وإذا كانت خطوة الجزائر هذه حيال سفيرِها ذي الباع الطويل في العمل النضالي والسياسيّ، قد فُسّرت بأن بوشامة تخطّى قواعد الدبلوماسيّة في الكلام عن رئيس دولة كُبرى، وأنّ العلاقات المتناميّة بشكل واسع بين الجزائر والولايات المتحدة الأميركية على أكثر من صعيد، فرضت اتخاذ اجراء سريع كهذا منعًا لاستغلال خصوم الجزائر كلام بوشامة لتحريض واشنطن ضد قيادة الرئيس عبد المجيد تبّون، الاّ أنّ الأمر يستدعي المُلاحظات التالية:
• أولاً كان الكلام في ندوة فكريّة ثقافيّة، تحت عنوان ” لبنان والجزائر، تاريخ مشرق وحاضر مضيء”، نظّمها اتحاد الكتّاب اللُبنانيّين بالتعاون مع السفارة الجزائريّة في لبنان، والمنبر الثقافي في جمعيّة التخصص والتوجيه العلمي، وكان الحديثُ عن أوضاع العالم وتعقيدات المشهد العربي على ضوء ما أصاب غزّة من حرب إبادة، وعن المسؤوليّة السياسيّة والأخلاقيّة للولايات المتحدة في وقف ما وصفتها الأمم المتحدة نفسها بأسوأ كارثة انسانيّة في هذا القرن.
• ثانيًّا لم يكن السفير كمال بوشامة يُعبّر عن الموقف السياسيّ الرسميّ لدولته، بل عن شعوره الشخصيّ حيال كارثة الإبادة التي يندى لها جبين كل انسانٍ شريف في هذا العالم، وهو الذي زرع فلسطين منذ ريعان شبابه في العروق والخلايا، ولم يترك مناسبة يستطيع فيها المُساهمة في رفع الظُلم عنها، ودعم شعبها للحصول على حريّته وحقوقه الاّ وانتهزها وكان مِقدامًا في هذا النضال. فكيف لشخص عاش مثله براعم الثورة الجزائرية، وتأسيس جبهة التحرير الوطني، والتحالفات مع الأحزاب والحركات النضالية على مستوى العالم العربي كله إلى جانب رفيقه القيادة الكبير المرحوم شريف مساعديه، أن يكبت غضبه في مناسبة كهذه ولا يقول الأشياء كما هي.
• ثالثًا ليس كمال بوشامة وحده من بلغ به الغضب حيال الشعب الذي يُباد أو الحروب التي تندلع أينما كان بتحميل ترامب المسؤولية ووصفه بمثل هذه النعوت، فجيمس ماتيس نفسه الذي كان أحد مساعدي ترامب وكان وزيرا للدفاع في عهده قال عنه ” إنه مجنون يصرخ في غرفة دائريّة”، ثم كم قائد أوروبي وآسيوي وأميركي لاتيني وصف سياسات ترامب الضرائبيّة والاقتصاديّة بأنّها:” جنون اقتصادي، وابتذال سياسي، ودكتاتورية ؟” ، وكم سياسي ومُفكر ومثقف وإعلامي وصف ترامب بأنّه غير قابل للضبط، وانفعالي ومجنون سياسة وغطرسة؟
• رابعًا إنّ الغضب الذي عبّر عنه بوشامة بكلامه الصريح هذا، والذي يُشبه أصلاً طريقته في قول الأشياء كما هي دون لفٍ أو دَوَران، كلّفه منصبه، لكنَّ الأكيد أنّه كان يعكس رأيًا عامًّا جزائريًّا وعربيًّا واسعًا، لم يفهم حتّى اليوم كيف أن دولة عُظمى كأميركا، ترفع شعارات الحريّة، ما زالت رافضة محاسبة إسرائيل على حرب الإبادة، أو إلزامها بوقف هذه الحرب أو مجرّد أدخال مساعدات إنسانيّة وطبيّة لأطفال يتضوّرون جوعًا ويموتون ببطء، وما زالت تدعمها وترفض حق النقض ” الفيتو” ضدّ كلّ من يتجرّأ على تقديم شكوى أو مشروع قرارٍ ضدّها في مجلس الأمن.
أما وقد وقع ما وقع، فإن لُبنان يخسر برحيل كمال بوشامة قامة عربيّة وطنيّة أحبّت بلاد الأرز منذ تعرّف عليها قبل أكثر من نصف قرن. ولو قُيّض لهذا السفير الجزائري المُحبّ للُبنان والذي يتربّع على عرشٍ ثقافي عالٍ وفي رصيده عشرات الكُتب، لكان نفّذ الكثير من المشاريع الطموحة التي كان يتحدّث عنها بشغف كبير بين لُبنان والجزائر بتكليفٍ شخصيٍّ من الرئيس تبّون الذي يقول دائمًا: “قدّموا للُبنان كل ما يريد”.
وكان بوشامة يعمل حثيثًا على إقامة أهم صرحٍ ثقافيٍ في لُبنان، وجاءت لجنةُ قبل أيام للاطلاع على المكان الذي سيُقام فيه، إضافة إلى زيادة عدد المنح الدراسية في الجامعات الجزائريّة خصوصًا في مجالات الطب، ومشاريع اقتصاديّة وتنمويّة، ومساعدات كثيرة بعد أن تمت إعادة الخطوط الجزائريّة الى مطار بيروت. ثم إنّه في عهد بوشامة، تمّت أول زيارة لرئيس جمهورية لُبناني إلى الجزائر منذ أكثر من ربع قرن، وسمع الرئيس جوزف عون بنفسه مدى الاستعداد الجزائري للمساعدة في كل القطاعات التي حملها معه الرئيس عون، والتي صاغها بوشامة نفسه بالتشاور مع رئاسة الجمهوريّة اللُبنانيّة.
فالرجل الذي ربطته بلبنان علاقاتُ أخويّة قديمة جدًا، وعرف تفاصيل الحياة السياسيّة في لُبنان منذ أيام الحركة الوطنيّة حتّى اليوم، كان يحمل في جعبته عشرات المشاريع المُهمّة، ويعمل مع عدد قليل من مساعديه كخليّة نحل دون كلل أو ملل، وكانت علاقاتُه الشخصيّة مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون كفيلة بتسريع عجلة تلك المشاريع دون تعقيدات إداريّة، حتّى ولو أنّ لُبنان ممنوع حاليًّا من تلقّي مساعدات مُباشرة من الجزائر وغيرها بسبب الشروط المفروضة عليه وفي مقدمها نزع سلاح حزب الله وتسريع الإصلاحات وبناء الدولة.
لا شكّ في أنّ مغادرة كمال بوشامة بيروت، تترك غصّة عن كل الذين عرفوه عن قرب وأحبّوه، ووترك فراغًا سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا ليس من السهل تخطّيه.