في عامِ ٢٠٢٢، أصدرَ هنري كيسنجر كتابَهُ الجديدَ بعنوانِ القيادة، وهو بمثابةِ شهادةٍ فكريَّةٍ سياسيَّةٍ من رجلٍ شغلَ مفاصلَ القرارِ الأميركيِّ والدوليِّ لعقودٍ طويلةٍ، في هذا العملِ لا يكتفي كيسنجر باستعادةِ تجاربِه مع زعماءِ العالمِ، بل يسعى إلى تقديمِ نظريةٍ في القيادةِ، تُعالجُ أزمةَ السياسةِ المعاصرةِ وتُبرزُ قيمةَ الرؤيةِ الإستراتيجيَّةِ في زمنٍ يطغى فيهِ التكتيكُ على الرؤيةِ، واللحظةُ الآنيَّةُ على النظرةِ البعيدةِ.
عندما وجدتُ أنَّ العالمَ الآنَ يتخبَّطُ بمراحلَ برزخيَّةٍ بينَ الحربِ العالميَّةِ والصِّراعاتِ الجانبيَّةِ، حاولتُ أن أجدَ مبرِّراً لهذا التلاعبِ الدُّوليِّ بعيداً عن تفاصيلِ الأحداثِ اليوميَّةِ المتكرِّرَةِ من أوروبا إلى الشَّرقِ الأوسطِ إلى أميركا اللاتينيَّةِ إلى الصِّينِ والكوريتينِ، إذا استمررينا بتتبُّعِ الأحداثِ المتشابهةِ والمتكرِّرَةِ فإنَّنا سننقادُ إلى ظلمةٍ ليسَ لها حدودٌ، فكانت العودةُ إلى الكبارِ الذينَ قد يكونونَ هم من خطَّط لهذه المرحلةِ مثلَ هنري كيسنجرَ، وأوَّلُ ما وجدتُ أنَّه قادَنا إلى زمنٍ يخلُو من القادةِ والعظماءِ ولا سيَّما في أوروبا والعالمينِ العربيِّ والإسلاميِّ، لذلك لجأتُ إلى كتابِ القيادةِ الذي يعيدُ القواعدَ الأساسيَّةَ للزَّعامةِ ويكشفُ هويةَ المرحلةِ، وسنتناولُ الأفكارَ الواردةِ في الكتابِ عبرَ سلسلةِ مقالاتٍِ مترابطة علَّها تحققُ الهدفَ.
في تاريخِ السياسةِ الدوليَّةِ، يَحتلُّ اسمُ هنري كيسنجر موقعًا خاصًّا، إذ يُعَدُّ واحدًا من أبرزِ صانعي القراراتِ الأميركيَّةِ خلال حقبةِ الحربِ الباردةِ، وخصوصًا في الشرقِ الأوسطِ، لقد كانَ للرجلِ رؤيةٌ إستراتيجيَّةٌ متكاملةٌ حيالَ هذه المنطقةِ الحسَّاسةِ، تَقومُ على مزيجٍ من الواقعيَّةِ السياسيَّةِ والبراغماتيَّةِ التي تُعطي الأولويَّةَ للمصالحِ الأميركيَّةِ على حسابِ حساباتٍ أخرى، بما في ذلكَ المبادئُ الأخلاقيَّةُ أو الشعاراتُ المثاليَّةُ.
منذُ تولِّيهِ منصبَ مستشارِ الأمنِ القوميِّ عامَ ١٩٦٩، ثمَّ وزيرَ الخارجيَّةِ الأميركيَّةِ في عهدِ الرئيسينِ ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، انشغلَ كيسنجر بالشرقِ الأوسطِ باعتبارهِ مسرحًا مركزيًّا للصراعِ بينَ الولاياتِ المتَّحدةِ والاتحادِ السوفياتيِّ. وقد بَنى رؤيتَهُ على ثلاثةِ محاورٍ أساسيَّةٍ:
أوَّلُها ضمانُ أمنِ إسرائيلَ كقاعدةٍ متقدِّمةٍ للمصالحِ الغربيَّةِ. وثانيها ضمانُ تدفُّقِ النفطِ من الخليجِ العربيِّ إلى الأسواقِ العالميَّةِ. وثالثها إدارةُ التوازناتِ الإقليميَّةِ بما يمنعُ قيامَ قوَّةٍ إقليميَّةٍ كبرى قادرةٍ على تهديدِ المصالحِ الأميركيَّةِ.
اما كتاب ”القيادة“ (Leadership) لكيسنجر، الذي صدر عام 2022، هو عمل والذي يستعرض فيه خبرته الطويلة في العلاقات الدولية، عبر تحليل شخصيات ستة من القادة الذين تركوا بصمة في القرن العشرين، سنحاول في هذه الكتابة الإحاطة بالمفهوم السياسي الذي يهدف إليه هذا الكتاب.
يرى كيسنجر أن القيادة ليست مجرد سلطة أو نفوذ، بل هي القدرة على صياغة رؤية مستقبلية، وتحويل الأزمات إلى فرص، وموازنة المبادئ مع المصالح. يجمع الكتاب بين التاريخ الشخصي والتحليل السياسي، ويعرض نماذج قيادية ساهمت في تشكيل النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
سنعرض القادة الذين تناولهم كيسنجر:
كونراد أديناور (ألمانيا الغربية) هو رمز استعادة الشرعية و أعاد بناء ألمانيا بعد النازية والهزيمة، من خلال المصالحة مع فرنسا والتحالف مع الغرب وركّز على الشرعية السياسية والأخلاقية كشرط للنهضة.
شارل ديغول (فرنسا) رمز العظمة الذي أعاد فرنسا إلى موقع عالمي بعد الاحتلال الألماني، وتمسّك بفكرة استقلال القرار الفرنسي حتى في مواجهة الولايات المتحدة.
ريتشارد نيكسون (أميركا) رمز التوازن، رغم سقوطه بفضيحة ووترغيت، يعتبره كيسنجر مهندس سياسة الانفتاح على الصين، وإستراتيجية التوازن مع الاتحاد السوفياتي، ركّز على البراغماتية كأداة لقيادة الإمبراطورية الأميركية.
أنور السادات (مصر) رمز الجرأة، يعتبره كيسنجر انه غيّر مسار الصراع العربي–الإسرائيلي من الحرب إلى السلام عبر الانفتاح وزيارة القدس، و مثّل نموذجًا لقائد خاطر بتراثه السياسي ليصنع واقعًا جديدًا.
لي كوان يو (سنغافورة) رمز الرؤية، حوّل سنغافورة من جزيرة فقيرة بلا موارد إلى مركز مالي–تجاري عالمي، واعتمد على الانضباط، التعليم، والانفتاح على الاقتصاد العالمي.
مارغريت تاتشر (بريطانيا) رمز الإصرار، أعادت رسم الاقتصاد البريطاني بسياسات السوق الحرة، عُرفت بصلابتها في مواجهة النقابات والاتحاد السوفياتي.٩
اذاً نستنتج مما سبق ان القيم الأساسية للقيادة عند كيسنجر
الرؤية: القدرة على استشراف المستقبل وصياغة مشروع واضح.
الشرعية: حيث قيادة بلا شرعية تكون اشبه بنمر من ورق.
الجرأة و الشجاعة: مواجهة التحديات حتى لو عارضها الرأي العام.
العظمة: وهي إمكانية فعل النهوض و القيام مجدداً.
البراغماتية: إدراك أن السياسة فن الممكن.
التوازن: الجمع بين المبادئ والمصالح.
الإصرار و الاستمرارية : بناء مؤسسات تضمن بقاء أثر القائد بعد رحيله.
فان القيادة عند كيسنجر مثل رحلة تدريجية لا تختبئ وراء شعارات كبيرة، بل تسير بخطوات حذرة تستبق الواقع وتفتح مسارات ممكنة عندما تبدو الطرق مسدودة، ومن يريد ان يعيش هذه الرحلة، عليه تتبع الثلاثية المفصلّة: الرؤية، الشجاعة، والبراغماتية، مع أمثلة واقعية في الكتاب من زمن كيسنجر نفسه تضيء كل جانب وتظهر كيف يتحول الحلم إلى مسار قابل للتنفيذ.
لذلك نجدُ ان العالمَ اليومَ يعاني أزمة قيادة، حيث يغلب التكتيك على الرؤية والسياسة الداخلية على المسؤولية العالمية، والهزلية الشخصية والفضائح الشخصية على القرارات المصيرية، يحتاج القرن الحادي والعشرون إلى قادة بمستوى من تناولهم كيسنجر في الكتاب: أشخاص لديهم القدرة على صياغة نظام دولي جديد في ظل صعود الصين وتراجع الغرب و وأزمات المناخ والذكاء الاصطناعي فكتاب القيادة هو تأمل شخصي وتاريخي في معنى القيادة من منظور رجل عاش في قلب السياسة العالمية لعقود، يقدم نماذج متباينة، لكن يجمعها عنصر مشترك: القدرة على اتخاذ قرارات مصيرية تغيّر مسار التاريخ.
