د.محمد سليمان فايد: شهدت العلاقات المصرية–الإيرانية في الآونة الأخيرة نقلة نوعية تُعيد القاهرة إلى قلب المعادلة الإقليمية والدولية في واحد من أكثر الملفات حساسية على الساحة الدولية، وهو الملف النووي الإيراني.
وجاء الاتصال الهاتفي للرئيس عبد الفتاح السيسي من نظيره الإيراني مسعود بزشكيان ليعكس حجم التحول الجاري، حيث وجّه الرئيس الإيراني شكره العلني للرئيس المصري على جهوده ورعايته المباشرة لمسار التفاوض الذي أفضى إلى توقيع اتفاق استعادة التعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية في القاهرة يوم 9 سبتمبر 2025.
مصر كوسيط محوري
هذا التقدير الإيراني يعكس أن الدور المصري لم يكن مجرد استضافة للمفاوضات، بل وساطة كاملة امتدت لأشهر، أفضت إلى إعادة فتح قنوات التواصل بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الاتفاق الموقع يتجاوز كونه وثيقة تقنية، فهو إطار عملي يحدد خطوات للتحقق وزيادة الشفافية في البرنامج النووي الإيراني، ويمثل نقطة انطلاق نحو استعادة الثقة بين إيران والوكالة، وهو ما أكده وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي خلال اتصالاته المكثفة مع نظرائه الأوروبيين والعرب ومع المبعوث الأمريكي الخاص.
اتصالات إقليمية ودولية
الحراك المصري لم يقف عند الوساطة الثنائية، بل شمل تحركات أوسع لتعزيز شرعية الاتفاق وضمان دعمه من الأطراف الدولية. فقد تواصل وزير الخارجية المصري مع الاتحاد الأوروبي وفرنسا والسعودية وسلطنة عُمان والولايات المتحدة، مستعرضًا تفاصيل الاتفاق وما يحمله من فرص لإحياء المسار الدبلوماسي، وتخفيف حدة التوتر الإقليمي، وبعث رسائل طمأنة إلى القوى الكبرى بأن القاهرة تتحرك في إطار يراعي مصالح جميع الأطراف.
العلاقات الثنائية: من السياسة إلى الاقتصاد
اللقاء الذي جمع وزير الخارجية المصري بنظيره الإيراني عباس عراقجي في القاهرة تطرق إلى ملفات أبعد من النووي، شملت تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والسياحي. هذا البُعد يفتح الباب أمام تصور جديد للعلاقات الثنائية، يقوم على تجاوز سنوات القطيعة والتوتر إلى شراكة عملية تراعي المصالح المشتركة، ومع ذلك، فإن بناء هذه العلاقات سيظل مرهونًا بمدى نجاح القاهرة في الحفاظ على التوازن الدقيق بين انفتاحها على إيران واستمرار التزاماتها الإقليمية والدولية، خاصة تجاه دول الخليج والولايات المتحدة.
غزة والبعد الإقليمي
من اللافت أن الاتصال الرئاسي والمباحثات الوزارية لم تغفل الوضع في قطاع غزة، حيث شدد الجانبان على ضرورة وقف إطلاق النار الفوري ورفض تهجير الفلسطينيين، والتأكيد على حل الدولتين.
إدراج هذا الملف ضمن المباحثات يعكس إدراك القاهرة وطهران أن أي مسار للتقارب الثنائي أو لمعالجة الملف النووي الإيراني لا يمكن فصله عن التوازنات الإقليمية الأوسع، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
دلالات استراتيجية
يمكن القول إن القاهرة حققت ثلاثة أهداف استراتيجية من خلال هذه الوساطة:
تعزيز مكانتها كوسيط إقليمي لا غنى عنه، قادر على فتح القنوات بين أطراف متباعدة.
إعادة إدماج مصر في توازنات القوى الدولية، عبر لعب دور رئيسي في ملف يرتبط مباشرة بالأمن العالمي.
إعادة صياغة علاقاتها مع إيران بشكل تدريجي، بحيث تصبح العلاقة مبنية على التعاون المشروط والرقابة المتبادلة.
نحو مرحلة جديدة
التوقيع على الاتفاق في القاهرة لم يكن حدثًا عابرًا، بل بداية مرحلة جديدة تضع مصر في قلب الجهود الدولية لمعالجة واحد من أكثر الملفات تعقيدًا، ونجاح الاتفاق في بناء الثقة بين إيران والوكالة الدولية، ذلك سيفتح الباب أمام مسار تفاوضي أوسع يعيد إحياء الاتفاق النووي بصيغة جديدة، ويمنح القاهرة دورًا رئيسيًا في ضمان استمراريته.
عودة القاهرة إلى ممارسة نفوذها التاريخي
إن الدور المصري في الملف النووي الإيراني يمثل تحولًا استراتيجيًا يعكس عودة القاهرة إلى ممارسة نفوذها التاريخي كجسر للحوار وحل الأزمات في المنطقة.
وبقدر ما يحمل هذا الدور فرصًا لإعادة تموضع مصر كقوة إقليمية مركزية، فإنه يضعها أيضًا أمام اختبار دقيق لإدارة التوازن بين مصالحها مع إيران، والتزاماتها تجاه شركائها العرب والدوليين.
ومع ذلك، فإن الاتفاق الموقع بالقاهرة يوم 9 سبتمبر 2025 قد يكون الشرارة الأولى لمرحلة جديدة من التهدئة الإقليمية، تُرسم ملامحها من قلب العاصمة المصرية.