كلّما أمعن بنيامين نتنياهو في رفض كلّ وساطات التفاوض لإنهاء حرب غزّة، والمجاهرة بأنّه يصنع الشرق الأوسط الجديد بالقوّة، وأنّه انتصر على الجبهات السبع، تضاعفت احتمالات تهجير أبناء غزّة إلى الحدود المصريّة، وتضاعف معها بالتالي خطر الاحتكاك بين الجيشين المصري والإسرائيلي خصوصًا أنَّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه لم يتردّد في الحديث عن تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، وإقامة منطقة سياحيّة واقتصاديّة مكانهم في غزّة. ولعلّ جنون نتنياهو الذي أوصله إلى حد شنّ عدوان سافر على دولة قطر بذريعة استهداف قادة حماس، دفع كلّ الدول العربيّة إلى دقّ ناقوس الخطر الحقيقي على الأمن القومي العربيّ، خصوصًّا بعد تدمير نتنياهو الجيش السوري الذي تعتبره مصر منذ أيام الوحدة، الجيش الأول.
لعلّ نتنياهو يعتقد أنَّه بعد ضربِه حماس وحزب الله وتدميره الجيش السوري، ودفعه مع ترامب الفصائل العراقيّة للانكفاء، واستهداف الحوثيّين وإيران، لم يبقَ أمامَه إلّا الجيش المصري، لإعادة صياغة الشرق الأوسط بالدم والدمار والتهجير والتجويع، استنادًا إلى الأساطير التوراتيّة التي باتت في صُلب السياسة الإسرائيلية الحاليّة، أكثرَ من أيّ وقت مضى.
مؤشرات المواجهة
الواقع أنّه منذ اندلاع حرب غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تكثّفت وتصاعدت التصريحات الإسرائيلية التي اعتبرتها القاهرة تحريضية وخطرة. فنتنياهو سارع إلى القول منذ أيلول/ سبتمبر الماضي «لن نتخلى عن السيطرة على محور فيلادلفيا» باعتباره شريانًا استراتيجيًا لأمن إسرائيل. وراح وزراؤه المتطرّفون الحاقدون وفي مقدمهم سموتريتش وبن غفير، يباهيان بطرد الفلسطينيين وتهجيرهم خارج الحدود، بينما كانت الآلة العسكريّة الإسرائيلية تدفع الناجين من القتل إلى جنوب القطاع صوب الحدود المصريّة. وذلك فيما تُرسم الخطط في تل أبيب والبيت الأبيض لإقناع دولٍ باستقبال المُهجّرين. وراح ترامب يتحدث بثقة غريبة عن أنَّ مصرَ والأردن سيستقبلان المُهجَّرين. وفيما كان جاريد كوشنر صهر ترامب يتحدث عن إمكانيات سياحيّة واقتصاديّة هائلة في القطاع بعد إفراغه من سُكّانه، كشف الموقع الإخباري الإسرائيلي “سيشا ميكوميت” وثيقة حول نقل المدنيين من القطاع إلى “مخيمات” في شبه جزيرة سيناء المصرية، على أن يليها بناء مدن دائمة وممرٍ إنسانيّ.
كان الردّ المصري سريعًا وحازمًا، عبر التصريحات الرسميّة، والإجراءات الحدودية، وفي القمم العربيّة والإسلاميّة التي عُقدت في القاهرة والرياض، وكان الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي سبّاقًا إلى القول منذ أكتوبر 2023، ” إنَّ المصريّين بالملايين سيرفضون التهجير القسري للفلسطينيين إلى سيناء”، وراح وزير الخارجية بدر عبد العاطي، يؤكد أنَّ التهجير” خطٌّ أحمر” وإنَّ الكلام عن الهجرة الطوعية ” هراء”. وهما يعلمان طبعًا أنَّ الشعب المصري سيكون خلف قيادتِه في هذه المسألة الحسّاسة، خصوصًا أن هذا الشعب العربيّ الأصيل، ما زال حتّى اليوم من نُخبِه وأحزابِه إلى أيّ إنسانٍ عاديّ فيه، رافضًا التطبيع، ويكفي أن نُذكّر بالانتشار الهائل الذي حصل قبل سنواتٍ فور صدور اغنية شعبية عنوانها:” أنا بكره إسرائيل”، وذلك بغض النظر عن رأي جزء كبير من هذا الشعب بحماس وامتدادها الإخوانيّ. فحتّى اليوم من شبه المستحيل أن تجد إسرائيليًّا يتنقّل بحرية في شوارع القاهرة، أو نقابيًّا أو فنّانًا أو مُثقّفًا أو سياسيًّا مصريًّا يقبل بالظهور على شاشة إسرائيليّة، أو يزور إسرائيل.
يكفي أن يقول الرئيس السيسي لشعبه أن ينزل الى الشوارع رفضًا لجنون إسرائيل، حتّى يجتاح عشرات الملايين هذه الشوارع وصولاً إلى الحدود، مع ما سيخلّفه ذلك من آثارٍ على الرأي العام العربيّ بمجمله الذي ما زال ينظر إلى مصرَ كركيزة أساسيّة في الأمن القومي العربيّ.
كذلك رفضت مصر رسميًا في أيلول / سبتمبر 2024 أي وجود عسكري إسرائيلي دائم على حدودها مع غزة أو أيّ تعديل أحادي لترتيبات الأمن الحدودي.
الجيش المصريّ في قلب المعادلة الجيوسياسيّة
مصر قلب العالم القديم، تتحكم في قناة السويس ومضيق تيران، ما يجعل حماية الممرات البحرية مهمة وجودية بالنسبة لجيشها، ثمّ إنَّ حدودها مع غزة وإسرائيل وليبيا والسودان تجعلها على تماس مباشر مع بؤر التوتر التي تمتد إلى اثيوبيا وسدّ النهضة، وما زال الجيش المصريّ الوحيد القادر على تحقيق توازن فعليّ مع النفوذ الإقليمي لدولتين كبيرتين هُما تُركيّا وإيران، مُستندًا إلى قواه الذاتيّة وتحالفاته الاستراتيجيّة.
ويعتبر الجيش المصريّ أحد أضخم الجيوش الإقليمية، مع احتفاظه باحتياطيات ضخمة، ومناوراتٍ مُشتركة مع أكبر دول العالم وأكثرها قدرة عسكريّة، مثل الولايات المتحدة، وفرنسا، ويمتلك قدراتٍ عسكريّة نوعيّة إلى حدٍ كبيرا منها 200 مقاتلة F-16 و 54 طائرة «رافال» فرنسية ، كما لديه برامج مُشتركة لإنتاج دبّابات M1A1 Abrams، والتي أعقبها وصفقة تحديث 555 دبابة M1A1SA ، وهو يمتلك فرقاطات من نوع FREMM من فرنسا/إيطاليا، وغواصات ألمانية متقدمة، إضافة الى قدراتٍ عاليّة في الدفاع الجوّي تشكل شبكة متنوّعة من S-300VM وبطاريات Buk-M2.
ثم إنّ هذا الجيش المصريّ الذي يعتمد على قوّة بشرية كبيرة، والذي يستند إلى عقيدة قتاليّة دفاعية رادعة لكن ببُعد قوميّ عربيّ حقيقي، يلعب دورًا اقتصاديًّا تنمويًّا في مصر، يجعله على تماس يومي مع شعبه، وقد ساهم مساهمة فعّالة في انشاء العاصمة الإدارية، ومناطق واسعة جديدة، وبناء الجسور والبنى التحتيّة، وإدارة مشاريع إنتاجية وزراعية عديدة.
احتكاكات مُقلقة ولكن
العقيدة الدفاعيّة الرادعة التي يتمتّع بها الجيش المصريّ، مقرونة ببنود اتفاقية كامب دافيد، حدّدت مدى انتشاره في سيناء وأنواع الأسلحة التي يستخدمها، لكن منذ طوفان الأقصى، وقبله بسبب عمليات إرهابية او محاولات تسلل، لم يتردّد الجيش في توسيع مجالات عمله. وقد استُشهد جندي مصري في رفح في 27 أيار/مايو 2024، وتعرضّت نقطة عسكرية مصريّة لقصف إسرائيلي قيل إنّه عن طريق الخطأ في تشرين الأول/ أكتوبر 2023. كما أنّ إسرائيل عمدت إلى السيطرة على معبر رفح/ محور فيلادلفيا في أيلول/ سبتمبر من العام 2024 ، وراحت تُلفّق الاتهامات التي كذّبتها القاهرة حول إغلاق مصر للحدود ومنع وصول المساعدات، وذلك بغية تأليب الرأي العام الفلسطيني والمصري على أصحاب القرار في مصر، وتهيئة الأجواء لما هو قادم بعد عمليات التهجير وتجميع المُهجّرين عند الحدود المصريّة.
السيناريوهات المتوقّعة
انطلاقًا ممّا تقدّم، يمكن توقّع 3 سيناريوهات:
- الأول: مواجهة محدودة إذا ثبّتت إسرائيل وجودًا دائمًا على الحدود أو وقعت مجزرة لعسكريين مصريين.
- الثاني: استمرار الاحتكاكات مع تصاعُدها كلما طال أمد حرب الإبادة وتهجير الفلسطينيين.
- مواجهة أوسع إذا ما عمد جيش الاحتلال إلى الدفع بالقوة نحو اختراق الحدود المصريّة
- حربٌ شاملة إذا ما ذهب جنون نتنياهو إلى حد الاعتقاد بأنّ أساطيره التوراتية تفترض السيطرة على سيناء ومحاولة إخضاع آخر الجيوش القادرة في المنطقة.
حتّى الساعة لا يُمكن التفكير مطُلقًا بأن الإدارة الأميركية ستسمح لنتنياهو بالذهاب بعيدًا في سياق توسيع الاحتكاك مع الجيش المصريّ، لأنَّ ذلك يعني ليس فقط الدخول في متاهة أمنيّة أكثر تعقيدًا، بل لأن من شأن ذلك أن يدفع مصر لوقف اتفاقية السلام، بينما ترامب يريد توسيع الاتفاقات الابراهيمية. ثم إنَّ المواجهة مع الجيش المصريّ غير محسوبة النتائج، خصوصًا أنّ هذا الجيش الكبير قادرٌ على المواجهة، وطوّر ليس فقط تدريبه وقدراته العسكريّة بل أيضا قدرات تكنولوجية في مجالات السايبر وور والذكاء الاصطناعي، ناهيك عن احتمال توسيع المواجهة مع انضمام دول أخرى للدفاع عن مصر، إضافة طبعًا إلى خطر تعليق كل اتفاقيات التطبيع العربيّة مع إسرائيل.
هذه الأمور تمنع التفكير بمواجهة عسكريّة كُبرى بين مصر وإسرائيل، لكن مع شخصٍ كنتنياهو ومتطرفي حكومته، ومع رئيس أميركي غير قابل للتوقع والضبط، كل شيء يبقى مُحتملاً، وهذا بالضبط ما يبني عليه الجيش المصريّ الذي أعدّ نفسه لكل السيناروهات، بما فيها أسوأها.