د. محمد سليمان فايد :مع تصاعد التحديات السياسية والاقتصادية، تبدو الثقافة والفنون الأقدر على صياغة مسارات جديدة للتقارب بين العرب والأفارقة. فالموسيقى والسينما والأدب والمسرح، بل وحتى الدراما التلفزيونية، كانت ولا تزال أداة لإعادة اكتشاف المشترك الإنساني، وتأسيس هوية عابرة للحدود.
الدراما.. جسر سابق لعصره
قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، لعبت الدراما العربية، خصوصًا المسلسلات المصرية والسورية واللبنانية، دورًا محوريًا في تقديم صورة عن العالم العربي لشعوب إفريقيا جنوب الصحراء. هذه الأعمال التي انتشرت عبر شاشات التلفزيون في الثمانينيات والتسعينيات، صنعت جسرًا وجدانيًا بين الشعوب، وأثرت في الذائقة الثقافية لجيل كامل من المشاهدين.
السينما.. مهرجانات كبرى ونجوم خالدون
أما السينما، فقد مثلت على مدى العقود الماضية أحد أبرز مجالات التلاقي العربي الإفريقي. مهرجان قرطاج السينمائي في تونس (1966) فتح الباب أمام السينما الإفريقية لتجد جمهورها العربي، بينما رسخ فيسباكو في بوركينا فاسو (1969) مكانته كأكبر مهرجان للسينما الإفريقية، مستقطبًا في دورته الأخيرة عام 2023 أكثر من 170 فيلمًا من 30 دولة بينها مشاركات عربية. المغرب أسهم بدوره عبر مهرجان مراكش الدولي للفيلم الذي جمع في 2023 نحو 75 فيلمًا من 36 دولة بينها 20 فيلمًا إفريقيًا، فيما أطلق السودان مهرجانات شبابية للسينما المستقلة. وفي مصر،ياتى مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بكل تاريخية واحتوائه لنجوم وأعمال أفريقية كبيره ،وكذلك مهرجان الاسكندريه ،ثم تأسس عام 2012 مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية ليكون أول مهرجان عربي متخصص في السينما الإفريقية، حيث استضاف في 2024 حوالي 134 فيلمًا من 45 دولة، مؤكداً دور الأقصر كجسر ثقافي نحو القارة.
ولم تكن هذه المهرجانات مجرد منصات للعروض، بل أيضًا فضاءً لتكريم كبار الأسماء الذين وضعوا بصمتهم في السينما العربية والإفريقية. فمن العالم العربي برزت أسماء مثل فاتن حمامة، عمر الشريف، يوسف شاهين، ونجيب محفوظ الذي شكلت رواياته رافدًا مهمًا للسينما العربية وحصل عام 1988 على جائزة نوبل للآداب. ومن إفريقيا أضاءت الشاشة أسماء لامعة مثل عصمان سمبين (السينما السنغالية)، سليمان سيسي (مالي)، ونجوم عالميون من القارة مثل تشيويتيل إيجيوفور (نيجيريا) ولوبينا نيونغو (كينيا)، الذين جسدوا نجاحات أفريقية على الساحة العالمية. هؤلاء وغيرهم جعلوا من السينما جسرًا حضاريًا يربط الضفتين العربية والإفريقية، ويفتح المجال أمام سرد قصص مشتركة تعكس هموم القارتين.
الموسيقى.. لغة الروح العابرة للحدود
الموسيقى كانت وما تزال الأداة الأسرع تأثيرًا. الإيقاعات الإفريقية أثرت في أنماط الغناء في شمال إفريقيا، بينما وجدت الأغنية العربية طريقها إلى مدن مثل باماكو وداكار. من العالم العربي برزت أسماء خالدة مثل أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، فيروز، ماجدة الرومي ووديع الصافي، التي ما زالت أصواتهم تسافر عبر الأجيال. أما إفريقيا جنوب الصحراء فقد أهدت العالم أصواتًا مميزة مثل يوسو ندور (السنغال) وفلا كوتي (نيجيريا)، الذين ألهمت موسيقاهم حركات فنية وسياسية عربية. ومن خلال مهرجانات مثل كناوة في المغرب، ومهرجان دكار للفنون، وأيام قرطاج الموسيقية، ترسخت الموسيقى كمنصة للتبادل الثقافي.
الأدب.. سرديات مشتركة
الأدب بدوره لم يكن غائبًا؛ فقد تقاطعت أعمال كتّاب عرب وأفارقة حول موضوعات الاستعمار، المنفى، والتحولات الاجتماعية، بدءًا من الطيب صالح في السودان إلى وولي سوينكا في نيجيريا. كما برزت أسماء مثل تشينوا أتشيبي (نيجيريا) ونغوجي واثيونغو (كينيا)، الذين حملت كتاباتهم رسائل كونية تتقاطع مع الهموم العربية. الجوائز الأدبية مثل جائزة كتارا والجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) أصبحت منابر لفتح المجال أمام كتاب أفارقة عرب وأفارقة فرنكوفونيين.
تعاون الشمال الإفريقي والعمق القاري
تعاون دول شمال إفريقيا مع العمق الإفريقي ظل سمة بارزة؛ فالمغرب رسخ حضوره الثقافي في غرب إفريقيا من خلال الجامعات والمراكز الثقافية، بينما دعمت الجزائر مهرجانات أفريقية كبرى منذ الستينيات. تونس عبر قرطاج السينمائية والموسيقية بقيت مركزًا جامعًا للفن العربي والإفريقي. أما مصر، فبجانب مهرجان الأقصر، واصلت استضافة آلاف الطلاب الأفارقة في مؤسساتها التعليمية، ما جعل التبادل الثقافي ملموسًا على مستوى الأفراد والمؤسسات.
الاتفاقيات والآفاق الرقمية
ورغم أن الاتفاقيات الثقافية بين العرب والأفارقة موجودة منذ السبعينيات، مثل برامج التبادل بين المغرب ودول الساحل أو اتفاقيات التعليم بين مصر والسودان ودول شرق إفريقيا، فإنها لم تُفعل دائمًا بالقدر الكافي. غير أن السنوات الأخيرة شهدت عودة إلى تفعيل هذه الاتفاقيات عبر برامج التدريب الفني، المنح التعليمية، والعروض المسرحية والسينمائية المشتركة.
ومع صعود المنصات الرقمية مثل نتفليكس وسبوتيفاي ويوتيوب، اتسعت آفاق التعاون الثقافي العربي–الإفريقي لتتجاوز حدود المهرجانات. فقد أتاحت هذه المنصات للأعمال العربية والإفريقية فرصة للوصول إلى جماهير عالمية دون وسيط تقليدي، ما ساعد على انتشار الدراما العربية في مدن مثل نيروبي وكيب تاون، وفتح الباب أمام الموسيقى الإفريقية لتجد جمهورها في القاهرة وبيروت والدار البيضاء. هذا البعد الرقمي يُكمل دور المهرجانات ويمنح التعاون الثقافي زخمًا يتناسب مع جيل الشباب المتصل بالإنترنت.
المستقبل.. نحو خطوات أكثر طموحًا
العائد من هذا التعاون لا يقتصر على بناء صورة إيجابية أو تعزيز التفاهم، بل يمتد إلى تنمية الصناعات الإبداعية التي تشكل أكثر من 5% من الناتج المحلي في بعض الدول الإفريقية، وخلق فرص عمل للشباب، وترسيخ القوة الناعمة كأداة دبلوماسية. المستقبل يتطلب خطوات أكثر طموحًا: صندوق عربي إفريقي لدعم الإنتاج المشترك، قناة ثقافية ثنائية، معارض متنقلة للفنون والكتب، إضافة إلى استثمار المنصات الرقمية لبث الأعمال العربية والإفريقية معًا لجمهور الشباب.
في النهاية، يظل الفن والثقافة أداة للالتقاء لا الانقسام، وجسرًا إنسانيًا قادرًا على تجاوز السياسة والاقتصاد. وحين تتلاقى الألحان والصور والحكايات من الرباط والقاهرة إلى داكار ولاغوس، فإن العرب والأفارقة لا يحتفون بماضيهم فقط، بل يصنعون مستقبلًا أكثر وحدة وازدهارًا.