قبل نحوِ شهرٍ قال الناطقُ باسم الجيش الإسرائيلي:” نفذنا حوالي 500 غارة وقتلنا 230 عنصرا من حزب الله منذ سريان اتفاق وقف النار مع لبنان (في 27 تشرين الثاني -نوفمبر 2024). ووفق تقديرات الأمم المتحدة فإن إسرائيل خرقت الاتفاق منذ توقيعه حتى 20 حزيران/يونيو الفائت،3,649 مرّة. لكن الحزب لم يرد على أيّ خرق، وهو ما يفسّرُه أنصارُه بأنّه الصبرُ حتّى التمكّن من الرد وإظهار عجز الجيش اللُبناني عن تولّي المسؤولية، بينما يراه خصومُه تقهقُرًا بقدراتِه العسكريّة وعدمَ قُدرةٍ على المواجهة.
في آخر خطاب له، قال أمينُ عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم:” لن تُسلّم المقاومة سلاحَها والعدوانُ مستمرٌ والاحتلالُ قائمٌ، وسنخوضُها معركةً كربلائية إذا لزم الأمر، في مواجهة هذا المشروع الإسرائيلي الأمريكي مهما كلَّفنا، ونحن واثقون أنَّنا سننتصر في هذه المعركة. وهيهات منا الذلة.”
من غير المعروف تمامًا بعدُ، على ماذا يبني الشيخ قاسم يقينَه هذا بالنصر، ذلك أن الظروفَ الموضوعيّة تبدو معاكِسةً تمامًا لهذا اليقين، فالحزبُ أصيب بنكسةٍ عسكريّة كُبرى في الحرب الأخيرة خصوصًا بعد تفجيرات أجهزة البيجر، واغتيال أبرز قادة فرقة الرضوان، وصولاً إلى فقده أمينه العام، والقائد الأبرز في كل المحور، أي السيّد حسن نصرالّله، كما أنّه فقد طريق الإمداد عبرَ سورية التي صارت مناهضة له، وضاقت البيئة المؤيدة له في الداخل خصوصًا بعد مجاهرة حليفه المسيحي الأبرز أي التيار الوطني الحُرّ بقيادة جبران باسيل بالابتعاد عنه، وتوسّع جبهة المطالبين بنزع سلاحه.
لكنَّ المُقرّبين من الحزب يقولون إنَّ النكسات التي أصيب بها ، والتي استندت إلى التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والاختراقات الاستخبارية، لم تسمح لجيش الاحتلال بالتقدّم برًّا في الجنوب، حيث خاض رجال الحزب معارك استثنائية في صدّه رغم فقدهم الكثير من وسائل الاتصال والتواصل في أثناء المعركة بسبب الاختراقات التكنولوجيّة. ويقولون أيضًا إنَّ الحزب رمّم خسائره، وسدّ الفراغات في قياداتِه، ودرس بدقةٍ أخطاءَ الحرب الأخيرة لتفادي مثلها لاحقًا، وصار على استعدادٍ لمواجهة جديدة، خصوصًا أنَّه ليس فقط لم يفقد الكثيرَ من أسلحته، بل أعاد تصنيعَ أسلحةٍ جديدة. كما أنّهم يعتقدون بأنَّ الجيش الإسرائيلي أُنهِك بالحرب ضد غزّة منذ عامين، وأنَّ صورة إسرائيل تقهقرت في الخارج، وأنَّ إيران استطاعت أن توجّه لعدوّها ضرباتٍ مؤلمة ردًّا على حربه ضدّها.
قد يكون كلُّ ما يقولُه أنصارُ الحزب صحيحًا، وقد يحمل بعضَ المُغالاة أو كثيرَها، لكنَّ التحليل الأوسع، يفترض مجموعةً من الأسئلة أبرزها الآتي:
- هل يتحمّل الحزب طويلاً ضرباتِ إسرائيل وخروقاتِها شبه اليوميّة، ويكتفي بالرد الكلامي عالي اللهجة. وهل هذا التأخير المُبرَّر بالصبر والاستعداد، يخدمُه فعلاً أم يُمعِن في إظهارِه ضعيفًا.
- هل ينتظر الحزب طويلاً بينما يكبُر الخطرُ ضدّه، عبر التحصينات التي يُنفّذُها نتنياهو في سورية، والتي ستُشكّل لإسرائيل جبهةً مُتقدّمة ومُحصَّنة ضد الحزب وإيران.
- هل الحزبُ واثقٌ من أنَّه هذه المرّة، لو أضطُر لخوض حربٍ جديدة، ستكون إيران عسكريًّا وليس في التصريحات فقط إلى جانبِه؟
- هل حَسَب الحزبُ بدقّة حجم الخسائر التي ستلحقُ ببيئتِه الشيعيّة وبلُبنان لو قرّر العودة إلى الحرب؟
- هل دَرَس بدقّة احتمالات الانتفاضات الداخليّة ضدّه من بيئات مُختلِفة، لو انزلق مُجدّدًا إلى الحرب، خصوصًا أنَّ دولاً إقليمية وغربيّة ستقف إلى جانب كلّ مَن سيتحرّك ضدَّه؟
- هل الحزبُ واثقٌ فعلاً من أنَّه قادرٌ على المناورة طويلاً ضد سحبِ أو تسليمِ سلاحِه، إذا ما عادت خطوط التفاوض بين إيران والولايات المتحدة الأميركيّة؟
- والسؤال الأهم، هل الحزبُ واثقٌ من أنّ رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل نبيه برّي لن يقفَ ضدّه هذه المرّة لو انزلق إلى الحرب؟
لا شكَّ في أنَّ الحزبَ الذي يعيشُ أصعبَ أوقاتِه منذ تأسيسِه، بحاجةِ لإجاباتٍ دقيقة على كلّ هذه الأسئلة، وهو إذ يُبرّر رفضه تسليم سلاحِه إلى الدولة بعوامل قلقٍ كثيرة وفي مقدمها استمرار العدوان الإسرائيلي، والخطر المُحتمل من سورية، فإنّه بالمقابل انسحب عسكريًّا من حرب ” الاسناد” لغزّة حتّى ولو أنَّ خطابَه ما زال يُركز على دعم فلسطين. كما أنَّ الحزب قَبِل على مضض بشروط المُعادلة الجديدة التي فرضها وقف إطلاق النار والتي لم تكن في صالحِه. وهو يعتبر ذلك أقصى ما يمكنُه القبول به حاليًّا. ولذلك قال لمناهضيه في الداخل على لسان رئيس كتلته البرلمانية الحاج محمّد رعد :” روحوا بلّطوا البحر، فمن يتخلّى عن السلاح يتخلّى عن شرفه”.
واستنادًا إلى كلّ ما تقدّم، فإن حزبَ الله، يجدُ نفسَه أمام 3 خيارات، فإما يستمرُّ في رفض تسليم السلاح مهما كلّف الأمر، وهذا يعني مزيدًا من الضغوط عليه وعلى لُبنان مع احتمال توسيع إسرائيل ضرباتِها ضدّه وتنفيذ اغتيالات في قياداته، وإمّا يُماطل في تسليم السلاح لكن دون إغلاق باب الحوار بهذا الشأن خصوصًا مع رئيس الجمهورية وقائد الجيش بانتظار ظروف أفضل تجعله يتحلّل من هذه الضغوط ويتمسّك بسلاحه، وهذا يعني أنّ واشنطن ومعها دول أخرى عربيّة وأجنبيّة سترفع مستوى الضغط على الدولة لتسريع خطوات سحب السلاح ما قد يؤجج مشاكل عديدة وتوترات داخلية في الشارع من وقت لآخر قد تخرج عن القدرة على الضبط. وأمَّا الاحتمال الثالث، فهو أن يُقرّر الحزب، لأسباب داخلية وأسباب متعلّقة بانسداد أيّ افق تفاوضي بين إيران والغرب، الردّ على عدوانٍ إسرائيلي، بالعودة إلى الحرب مع كلّ ما يعنيه الأمر من مخاطر عسكريّة كبيرة جدًا، ويلعب بالتالي ورقة ” عليّ وعلى أعدائي يا رب”.
ويبقى الخِيار الأخير، وهو أن يُقرّر الحزب تسليم سلاحه إلى الدولة. هذا أمر بعيد المنال في الوقت الراهن، وسيبقى مُرتبطًا بتسويات كُبرى تكون إيران شريكًا بها، وتشمل لبنان وفلسطين وسورية وغيرها، ولا يبدو أنًّ الأمور ذاهبةٌ، على الأقل في الوقت الراهن، بهذا الاتجاه.
الواقع أن حزبّ الله يقف اليوم أمام خطرين كبيرين من قِبل إسرائيل: أولهما استمرارُها بقتل عُنصرٍ أو أكثر من رجالِه كلَّ يوم وتدمير قراه وبيئته كما تفعل منذ اتفاق وقف إطلاق النار، وثانيهُما خطرُ إقدامِها على عدوان واسع ضدّه وربما تنفيذ اغتيالات كُبرى في صفوفه، وذلك استنادًا إلى رغبة نتنياهو المدعومة من ترامب بعدم السماح للحزب باستعادة قدراته، واستكمال تدمير القوى المُسلّحة في المنطقة، والتمهيد لإقامة مناطق اقتصادية وسياحيّة وغيرها ضمن الاتفاقات الابراهيمية التي يريد ترامب توسيعها لتشكل سورية ولبنان والسعوديّة وغيرها.
من هذا المُنطلق بالضبط، سيكون احتمال استخدام الحزب لسلاحِه مُجدّدًا أكبر من احتمال إقدامه على تسليمِه. ومن يعتقد غير ذلك، واهمٌ، خصوصًا أنّ الاتجاهات الغيبيّة عند الحزب تضاعفت بعد الحرب الأخيرة، وهذا ما يُفسر تمامًا يقين الشيخ قاسم بالانتصار وكلامه عن المعركة الكربلائية.
والسؤال بالتالي، ليس هل تعود الحرب والتوترات الداخليّة أم لا، بل متى ستعود؟