د.محمد سليمان فايد: لأكثر من قرنٍ من الزمن، ظلت إفريقيا أسيرة خريطتين مشوهتين: الأولى رسمتها القوى الاستعمارية في أواخر القرن التاسع عشر، عندما اجتمع الأوروبيون في مؤتمر برلين عام 1884 – 1885 ليقسّموا القارة وفق مصالحهم التجارية والاستراتيجية دون اعتبار للهويات العرقية أو الامتدادات التاريخية للشعوب، والثانية هي الخريطة الجغرافية التي روّج لها إسقاط “مركاتور” منذ عام 1569، والتي صغّرت من حجم القارة بصريًا وجعلتها تبدو أصغر كثيرًا من مساحتها الحقيقية. هاتان الخريطتان – السياسية والجغرافية – أسهمتا في تكريس صورة زائفة عن القارة السمراء: الأولى أفرزت نزاعات حدودية لا تزال تُشعل بؤر التوتر حتى اليوم، والثانية جعلت العالم ينظر إلى إفريقيا باعتبارها هامشًا صغيرًا في الجغرافيا الدولية، رغم أنها ثاني أكبر قارة من حيث المساحة والسكان.
في أغسطس 2025، أطلق الاتحاد الإفريقي مبادرة غير مسبوقة لتصحيح هذا الظلم البصري الممتد منذ خمسة قرون، من خلال اعتماد نموذج “الأرض المتساوية” الذي يعرض إفريقيا بحجمها الحقيقي. وقد حظيت هذه المبادرة باهتمام إعلامي واسع، خاصة بعد أن أبرزتها صحيفة واشنطن بوست في تقرير تفاعلي، واعتُبرت خطوة رمزية لكنها بالغة الأهمية لإعادة الاعتبار للقارة. وأكدت سلمى مليكة حدادي، النائبة الأولى لرئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، في تصريحات لوكالة رويترز: “قد تبدو مجرد خريطة، لكنها في الواقع ليست كذلك. إنها انعكاس للطريقة التي يرى بها العالم إفريقيا”.
الناشطون الأفارقة يعتبرون أن القضية ليست تقنية بحتة، بل سياسية وثقافية في المقام الأول. فحين تُرسم أوروبا وأمريكا الشمالية أكبر من مساحتها الفعلية بينما تُقلّص إفريقيا بصريًا، فإن ذلك يترجم إلى هيمنة رمزية أثّرت على التعليم والسياسات الدولية لعقود. دراسة صادرة عن جامعة ميشيغان عام 2022 وصفت إسقاط مركاتور بأنه “أطول عملية تضليل بصري في التاريخ”، وأشارت إلى أن الخريطة أسهمت في ترسيخ انطباعات خاطئة لدى أجيال من الطلاب حول حجم القارات وأهميتها النسبية. كما أوضح تقرير لمؤسسة “ديلي جالاكسي” أن استخدام هذا الإسقاط لم يكن محايدًا أبدًا، بل جاء انعكاسًا لموازين القوة العالمية.
ما يربط هذه المبادرة بموضوع الحدود المصطنعة هو أن الخرائط لم تكن يومًا أدوات بريئة، بل عكست دائمًا مصالح القوى المهيمنة. فالحدود التي رسمها الاستعمار في القرن التاسع عشر مزّقت قبائل ومجتمعات متداخلة، وخلقت كيانات سياسية متنافرة. واليوم، الخرائط الجغرافية المشوهة ما زالت تكرّس صورة غير عادلة. إعادة التفكير في الخريطة، سياسيًا وبصريًا، هو جزء من عملية أوسع لإعادة تعريف إفريقيا لنفسها، فالقارة التي لطالما صُوّرت كضحية للتقسيم والتهميش، تسعى اليوم لإبراز قوتها الحقيقية: سوق موحّدة تضم أكثر من 1.4 مليار نسمة، وموارد طبيعية هائلة، وأصوات شبابية تشكل 60% من السكان وتطمح إلى النهضة.
ويعمل الاتحاد الإفريقي مع منظمات مثل “أفريقيا بلا فلتر” و”تحدثوا عن إفريقيا” على إدخال الخرائط الجديدة في المناهج الدراسية بالقارة، بهدف زرع وعي مختلف لدى الأجيال القادمة. وتقول فارا نداي، إحدى مؤسسات المبادرة: “نعمل على أن تكون خريطة الأرض المتساوية هي المعيار في كل الفصول الدراسية، حتى يرى طلاب إفريقيا قارتهم كما هي فعلاً”. هذا التوجه يحظى بدعم أبحاث تربوية عديدة، من بينها دراسة لليونسكو عام 2021 أكدت أن “تصحيح الخرائط في التعليم يغيّر وعي الطلاب بهوياتهم وانتمائهم العالمي”.
في المقابل، لا تزال منصات عالمية كبرى مثل خرائط جوجل تعتمد على إسقاط “مركاتور”، ما يضاعف الحاجة إلى حملة ضغط دولية. ويؤكد خبراء الجغرافيا أن الخيارات الخرائطية ليست مجرد أدوات تقنية، بل انعكاس لموازين القوة، تمامًا كما كانت حدود الاستعمار انعكاسًا لمصالح أوروبا قبل قرن ونصف. وعلى الرغم من أنه لا يمكن لأي إسقاط أن يمثل الأرض بدقة كاملة، فإن اعتماد إفريقيا لخريطة أكثر عدلاً يعكس توجهًا جديدًا نحو تجاوز الإرث الاستعماري وإعادة صياغة مكانتها عالميًا.
المبادرة إذن لا تتعلق بالجغرافيا وحدها، بل بعملية أوسع لإعادة كتابة سردية القارة. فكما تسعى إفريقيا اليوم لتجاوز حدودها المصطنعة عبر التكتلات الاقتصادية والسياسية، فإنها أيضًا تُعيد رسم صورتها البصرية أمام العالم. والرسالة التي تبعث بها واضحة: إفريقيا لم تعد مجرد مساحة مُصغَّرة على هامش الخرائط، بل قارة بحجمها الحقيقي، وتاريخها العميق، ومستقبلها الواعد.