على الرغم من عمق جراحها وألم إصابتها، إصابتها التي كادت تتسبّب في بتر قدميها، تحاول الفلسطينية “صباح النمس” أن تتحامل على جراحاتها ووجعها وجوع أطفالها بعد أن كسر الحزن ظهرها وأقعدت الإصابة زوجها عن الحركة والسعي وراء كسرة خبز، تسدّ رمق أطفالٍ، أدمى قلوبَهم التخاذلُ العربيُّ والإسلاميّ والتواطؤ العالميّ، وأرهق أرواحهم المثخنة بالإرادة والتصميم على افتراش الأنقاض لعلّ شظية صاروخ أو قذيفة تحمل قليلاً من الدفء إلى أجساد أنهكها صقيع الظلم من أبناء أمتها..
لم يقترف الطفل “مصعب أبو محسن” (عامان وسبعة أشهر) أيّة جريمة ولم يحمل سلاحاً يقاتل به المحتلّ الصهيوني، كما أنّه لم يعترض على السلوك الهمجيّ للإدارة الأمريكية بسبب دعمها اللامحدود للإجرام الصهيوني بحقّ أطفال غزّة ونسائها، تماماً كما أنّه لم يعترض على سلوك وكلام المبعوث الأمريكي “توم باراك” في بيروت على الرغم من أنّ ذلك الكلام كان تعبيراً عن سلوك الإدارة الأمريكية الشريك الأساسي للمحتل بجرائمه بحقّ أطفال ونساء فلسطين.. نعم لم يُعرَف عن مصعب قيادته للمظاهرات الرافضة للسلوك الهمجي الصهيوني، أو المستنكرة للذلّ والتواطؤ العربيّ والإسلامي، فصوته لم يشتدّ عوده بعد، وحباله الصوتيّة مازالت رقيقةً رقّة ياسمين الشام، كلماته كانت بالكاد تصل أسماع والدته (صباح النمس)، التي لا همّ لها اليوم بعد أن اخترقت الشظايا جسدَه الغضّ وتمكّنت من جمجمته وأطرافه، إلا أن يستعيد نطقه ويناديها بصوته الرقيق “يا ماما”، بعد أن كان يحتضنها ويحنو عليها برقّة قلبه، كلّما شاهد حزنها وضعفها وانكسارها على ما أصاب غزة وأهلها في حرب القتل والتدمير والتجويع .. هذا الصمت القسريّ لمصعب يتلاقى مع صرخات الألم والوجع في جسد الطفل “أحمد أبو سحلول” بعد أن أنهك سلاحُ العدوّ جسدَه فأذبله كوردةٍ شوه لهيبُ النار جمالَها وذهب بعطرها، دون أن ينجح بسرقة صوته الذي لم يعد يملك سواه، للبحث عن أبويه اللذين ذهبت بهما طائرات العدو الانتحاريّة إلى عالم لا مكان للشرّ والحقد فيه.. صرخات أحمد المنهكة هذه استقبلتها الطفلة “جنى عواد” بكلّ ما تحمله الطفولة من براءةٍ وشغف وطهر: ( ماما أين جوري؟ اذهبي يا ماما وأحضري جوري) وكأنّ شبح الجوع المفترس أنساها أنّ جوري غدت لقمة سائغة بين فكّيه وأنيابه المتعطّشة إلى مزيد من الظلم والقهر، وكأنّ الظلم والقهر والجوع والقتل وغيره من جرائم أصابت أطفال فلسطين ليست كافية لصحوة الضمير الإنساني وإجبار المحتل على وقف هذه المذبحة المفتوحة، لا سيّما بعد أن بلغ العجز بأطفال غزة أنّهم لم يعودوا قادرين حتّى على الصراخ أو البكاء للتعبير عن الجوع والألم..
واقع أطفال غزة اليوم تتقاذفه حمم اللهب والجوع والألم والإصابة والبعد. يشتاق طفل لانتهاء الحرب والعودة إلى حضن أمه، فيأتيه خبر استشهادها، كما هو حال ابن الصحفية الشهيدة “مريم أبو دقة”، التي تبرعت بإحدى كليتيها لوالدها لعل الله يعطيه عمراً يمكنه من رعاية طفل، فقد حضن الأم وحضن زيتون فلسطين..
في غزة وحدها الأطفال لا يكبرون، وفي غزة وحدها تستأصل أصوات البراعم والطيور حتى لا يقدر أحدهم على تلقين أخيه الشهادة، أو البكاء تعبيراً عن ألمٍ افترس جسده وجراحٍ أشعلت روحه..
في غزة وحدها يكبر الطفل على يقينٍ بأن الموت جارٌ يطرق الباب في أي لحظة.
ألم يقل طفلٌ فلسطيني لإعلاميٍّ أثناء هذه الحرب المجنونة: “إحنا في فلسطين ما نكبرش، إحنا في أي لحظة ممكن ننطخ، ممكن نموت، وإحنا ماشيين نلاقي حالنا مطخوخين، هيك الحياة في فلسطين”؟!