د.محمد سليمان : قبل ساعات فقط، اهتزّت السواحل الموريتانية على وقع مأساة جديدة، حيث لقي أكثر من 60 مهاجراً غير نظامي مصرعهم، فيما لا يزال آخرين في عداد المفقودين، إثر انقلاب زورق كان يقلّهم باتجاه أوروبا. وتمكّن 17 شخصًا فقط من النجاة بعد أن سبحوا لأكثر من ساعة قبل أن تعثر عليهم دورية لخفر السواحل شمالي ميناء تانيت. الحادثة ليست الأولى من نوعها، لكنها تعكس مأساة متكررة تتجدد كل أسبوع تقريبًا على امتداد السواحل الإفريقية.
هذه الكارثة الإنسانية ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الحوادث التي تشهدها طرق الهجرة غير الشرعية. فوفق المنظمة الدولية للهجرة، لقي أكثر من 28 ألف مهاجر مصرعهم أو فُقدوا في البحر المتوسط منذ عام 2014، فيما سُجِّلت 2,500 حالة وفاة أو فقدان في عام 2023 وحده. وفي ليبيا وتونس والمغرب وموريتانيا، لا يكاد يمر شهر دون الإعلان عن غرق قوارب تقل مئات المهاجرين اليائسين، معظمهم من الشباب.
ورغم إدراك المخاطر، يصرّ هؤلاء على ركوب البحر. الأسباب عميقة ومترابطة: البطالة المرتفعة التي تتجاوز 30% بين الشباب في شمال إفريقيا، الفقر، تراجع فرص التعليم والعمل، وعدم الاستقرار السياسي. كل ذلك يدفع الآلاف إلى البحث عن “الخلاص” في أوروبا، حتى وإن كان الطريق ثمنه الموت غرقًا.
المفارقة أن أوروبا، التي كانت في الماضي تغزو إفريقيا من أجل نهب ثرواتها والاتجار بالبشر، أصبحت اليوم الوجهة التي يندفع إليها الأفارقة طوعًا، وكأن التاريخ يعيد نفسه في صورة أكثر مأساوية. واليوم، بينما تتبنى أوروبا والولايات المتحدة سياسات صارمة لإعادة المهاجرين غير النظاميين إلى بلدانهم، تظل قوارب الموت تواصل الإبحار من شواطئ إفريقيا نحو “الفردوس الموعود”.
الأرقام تضعنا أمام واقع صادم: القارة الإفريقية تضم أكثر من 60% من سكانها من فئة الشباب. هذه النسبة الهائلة، لو استُثمرت داخل القارة عبر التعليم وفرص العمل، لتحولت إلى قوة اقتصادية هائلة. لكن غياب السياسات الرشيدة، وانتشار الفساد، يجعل البحر خيارًا أخيرًا. في المقابل، تعاني أوروبا من فجوات في أسواق العمل، خصوصًا في قطاعات الزراعة والرعاية الصحية والخدمات، وهو ما يجعل تنظيم الهجرة الشرعية أكثر جدوى من محاولات المنع والترحيل.
وتشير إحصائيات حديثة صادرة عن المنظمة الدولية للهجرة إلى أنه خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025، حاول أكثر من 47 ألف مهاجر غير نظامي عبور البحر المتوسط باتجاه أوروبا، انطلق معظمهم من السواحل الليبية والتونسية والمغربية. وخلال نفس الفترة، تم تسجيل غرق ما لا يقل عن 105 قوارب، راح ضحيتها ما يزيد على 1,150 شخصًا بين قتيل ومفقود، أي بمعدل يقارب 230 ضحية كل شهر. كما تؤكد الأرقام أن نسبة الهجرة عبر مسار غرب إفريقيا (موريتانيا والسنغال باتجاه جزر الكناري الإسبانية) ارتفعت بنسبة 18% مقارنة بعام 2024، ما يعكس انتقال شبكات التهريب إلى طرق أطول وأكثر خطورة لتجنب الرقابة.
الهجرة غير الشرعية إذن ليست مجرد قضية عابرة، بل تعبير عن اختلال عميق في العدالة الاقتصادية والتنموية بين الشمال والجنوب. وما لم تتحرك الحكومات الإفريقية، بالتعاون مع شركائها الأوروبيين والدوليين، لمعالجة جذور الأزمة، فإن البحر سيظل المقبرة المفتوحة لشباب في عمر الزهور.