اسلام كيتا- تومبوكتو
شنّت صحيفة “لاتريبون جويف” اليهودية الفرنسيّة المؤيدة لإسرائيل هجومًا لاذعًا ضدّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بسبب شجبه لما يقوم به جيش الاحتلال في غزة والضفة، وعزمه على قيادة مؤتمر نيويورك في الشهر المقبل مع السعودية لحل الدولتين وتوسيع الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ومنذ فترة تنشر هذه الصحيفة سلسلة من المقالات والتعليقات التي تصوّر السياسة الحالية لفرنسا بأنها تعادي السامية وتشجع حماس، وهو ما يذكرنا بالهجوم الكاسح الذي كان قد شنّه سابقا رئيس الوزراء الاسرايلي آرييل شارون على عهد الرئيس الدوغولي جاك شيراك، ولكنه لم يصل الى مرحلة المواجهة الفعلية بين ماكرون ورئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو حيث لم يتردد سيد الأليزة في وصف اتهامات نتنياهو له ب ” الدنيئة والخسيسة”.
في ما يلي نص الهجوم بقلم: ريتشارد أبيتبول
«أقسى الأعداء غالبًا هو من يدّعي أنه صديقك.» — مثل عبري
هناك أعداء يُرصدون فورًا. يرفعون شعاراتهم، يلوّحون بأعلامهم، يهددون بوجوه مكشوفة. وهناك آخرون، أكثر خطرًا بما لا يُقاس، يتلفّعون بلغة الصداقة، يضاعفون إيماءات التعاطف، لكن كل جملة من جُملهم تحفر هوّة، تؤجج الشكوك، وتُضفي الشرعية على الكراهية. رسالة إيمانويل ماكرون إلى بنيامين نتنياهو تنتمي إلى هذه الفئة الثانية.
للوهلة الأولى، تبدو نصًا يجمع بين الصرامة والتعاطف، يُذكّر بتعلق فرنسا بذكرى المحرقة وبمعارضتها للاسامية. لكن عند التمحيص، ليست سوى رسالة اتهام، فعل اتهامي ضد إسرائيل، وبالانعكاس ضد يهود فرنسا. ليست يدًا ممدودة، بل إصبعًا مُوجّهًا. ليست دعمًا، بل إدانة ملفوفة بورق ذهب الخطاب الجمهوري.
وهم الصداقة
يبدأ إيمانويل ماكرون رسالته بالتشديد على التزامه «المطلق» ضد معاداة السامية. يذكّر بخطابه في فيل ديف عام 2017، وباعتماد تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)، بالقوانين المصوّت عليها، وبالشرطة المعبّأة. كتالوغ من الإجراءات يفترض أنه يجسد «وفاءً» في محاربة الكراهية.
لكن هذا الجرد لا يبدو إلا كتراتيل بيروقراطية. أرقام ومراسيم واحتفاليات. كأنّ بعض القوانين والمؤتمرات والخطابات تكفي لحجب الحقيقة: في فرنسا ماكرون، معاداة السامية مزدهرة. ومزدهرة لأنها لا تُسمّى في أشكالها الأحدث والأكثر فتكًا: الآتية من الإسلاموية الراديكالية ومن الأيديولوجية ما بعد الاستعمارية.
بدل أن يقاتل معاداة السامية لذاتها، يذيبها ماكرون في حساء جمهوري واسع حيث تُدان «كل أشكال الكراهية»، حيث تُوضع الاعتداءات على اليهود في نفس السلة مع مظاهر عنصرية أخرى. هذا التعميم يُذيب الخصوصية. فلا يعود أحد يحارب معاداة السامية، بل تُدرج كبند إضافي في قائمة.
استغلال المحرقة: ستار دخان
يذكّر ماكرون بخطابه في فيل ديف، وباعتماد تعريف الـIHRA، وبالقوانين التي سُنّت. لكن كل ذلك لا يبدو إلا كدرع من النفاق. بدل أن يحمي يهود فرنسا، يُعرّضهم أكثر للخطر. فكلما قال: «معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية»، سارع ليضيف: «لكن على إسرائيل أن تغيّر سياستها». كأن يقول لضحايا الضرب: «أدين ما تتعرضون له من ضربات، ولكنكم قد استحققتموها».
منذ ديغول وجملته الشهيرة: «رغم سيل الحقدات، صعودًا وهبوطًا، التي كانوا يثيرونها أو يثيرونها بالضبط، في بلدان معينة وفي أزمنة معينة …»، لم يجرؤ أي رئيس فرنسي على تبرير معاداة السامية علنًا بهذا الشكل. أما ماكرون، فقد فعل.
تجريم الضحايا
أكثر مقاطع الرسالة خبثًا هو ذاك الذي يقول فيه ماكرون، وهو يدين معاداة الصهيونية، إنّ «تعريف الـIHRA لا يمكن أن يُعفي إسرائيل من السياسات التي تنتهجها اليوم في غزة وفي سائر الأراضي الفلسطينية».
الرسالة واضحة: نعم، معاداة الصهيونية شكل من معاداة السامية… لكن إسرائيل تثيرها بسياساتها. بجملة واحدة، يُضفي الرئيس الفرنسي الشرعية على الحجة الكبرى للمعادين للسامية: «إذا كنا نكره اليهود، فذلك بسبب إسرائيل». وهكذا يُكرّس، في أعلى هرم الدولة، الآلية التي تبرّر كل اعتداء في الشوارع، وكل تدنيس مقبرة، وكل شتيمة لطفل يهودي.
هنا يحدث انقلاب رهيب: الضحايا يصبحون متهمين. بدل القول إن معاداة السامية في فرنسا كراهية لا عقلانية، قديمة، متجذرة، يزعم ماكرون أنها تُؤجَّج بسياسة إسرائيل. أي أن يهود فرنسا يدفعون ثمن إسرائيل، وعلى إسرائيل أن تغيّر لتُقبل (ربما) في فرنسا.
الصديق الذي يُحمّل إسرائيل كل الجرائم
بقراءة هذه الرسالة، يخال القارئ أن إسرائيل سبب كل معاناة الشرق الأوسط. احتلال غير قانوني، إعادة استعمار، مجاعة، تجريد من الإنسانية: يسرد ماكرون الاتهامات كالسياط. وحماس؟ بالكاد يُذكر، كحاشية، كأن هذه الجماعة الإبادية ليست سوى تفصيل. إيران؟ شبه غائبة. أما هجمات 7 أكتوبر، التي قُتل فيها 1200 إسرائيلي ذبحًا وتعذيبًا واغتصابًا؟ تُختصر في جملتين، سريعًا ما تُغرق في سيل اللوم.
الصديق الوفي كان سيكتب: «فرنسا ستكون إلى جانبكم ما دام إرهابيون يسعون إلى محوكم». لكن ماكرون كتب العكس: «خياراتكم تُغذّي معاداة السامية، سياساتكم تغذي الكراهية، حروبكم تعزلكم». هذه هي الازدواجية: مداعبات لفظية تليها صفعات أخلاقية.
حماس في الظل
في هذه الرسالة، لا يظهر حماس – المنظمة الإبادية التي تنص ميثاقها على إبادة اليهود – إلا كظل. صحيح أن ماكرون يدين «فظاعة» أفعالها، لكن إدانة شكلية، بلا قوة ولا اتساع. كل النص متمحور حول «تجاوزات» إسرائيل، «هجومها القاتل وغير القانوني»، «إعادة استعمارها»، و«تجريدها من الإنسانية».
أي أن إسرائيل صارت، في نظر ماكرون، خطيرة على السلام بقدر ما هو حماس نفسه. لم يعد الحديث عن شعب محاصر، مذبوح في 7 أكتوبر، مهدد كل يوم من إيران وأذرعها الإرهابية، بل عن دولة مُذنبة، ظالمة، تبث المجاعة والفوضى.
بتقليله من وحشية حماس ومبالغته في انتقاد إسرائيل، يقلب ماكرون الأدوار: يصبح الإرهابي مجرد نتيجة، والدولة اليهودية المشكلة الحقيقية.
المرآة المشوّهة للكونية الفرنسية
يحب ماكرون أن يُذكّر بأن «الجمهورية الفرنسية منذ 1789 هي العدو الدائم لمعاداة السامية». يا لها من سخرية مريرة! فرنسا هي قضية دريفوس. فرنسا هي فيشي. فرنسا هي حملات الاعتقال عام 1942. فرنسا هي جرائم تولوز، والمتجر اليهودي، وسارة حليمي، وميراي كنول.
لكن ماكرون، وفيّ لخطاب الكونية المجردة، يدّعي أن معاداة السامية الفرنسية مجرد حادث عارض، دائمًا خارجي، لا جذور له. وهكذا يستطيع أن يتقمص إرث 1789، متملصًا من المسؤولية الحاضرة: مسؤولية أنه لم يجرؤ يومًا على تسمية معاداة السامية الإسلاموية باعتبارها الخطر الأكبر المعاصر.
يتزيّا بزيّ فيلسوف من فلاسفة الأنوار، فيما يترك الكراهية تتكاثر في الشوارع وعلى الشبكات الاجتماعية بلا خوف من الظهور.
ماكرون، العدو الأخطر: الصديق الزائف
العدو المُعلن، يسهل التحصن ضده. لكن الصديق الذي يتهمك وهو يدّعي الدفاع عنك، الذي يدين الكراهية وهو يغذيها، هذا هو العدو الأشد مكرًا. إيمانويل ماكرون، في هذه الرسالة، لا يمد يده لإسرائيل: بل يضع في معصميها القيود الأخلاقية، يملي عليها أن تستسلم، أن تتجرد، أن تختفي كقوة حيّة لتصير رمزًا تضحويًا فحسب.
يزعم أنه «ضامن محاربة معاداة السامية»، لكنه يوقّع نصًا سيصبح وقودًا لها. كل متطرف يساري، كل إمام راديكالي، كل ناشط «ما بعد استعماري» سيتمكن من التلويح بهذه الرسالة ليقول: «انظروا، حتى الرئيس الفرنسي يقولها: إسرائيل مذنبة، واليهود يدفعون ثمنها».
يمكن الاحتماء من عدو معلن. أما الصديق الزائف، الذي يقول إنه يدافع عنك فيما يتهمك، فهو أفتك. وهذا بالضبط ما يجسده ماكرون في هذه الرسالة.
يقول لإسرائيل: «أنا صديقكم»، لكنه يأمرها أن تتخلى عن دفاعاتها وخياراتها وسيادتها. يقول ليهود فرنسا: «أنا أحميكم»، لكنه يُضفي الشرعية على خطابات من يبصقون عليهم. يقول للعالم: «أنا أحارب معاداة السامية»، لكنه يوفر لها الذرائع.
هذه هي ازدواجية ماكرون: خطاب معسول يقترن بسياسة تُغذي، في الجوهر، الكراهية.
يختم ماكرون رسالته بدعوة نتنياهو إلى «اغتنام فرصة السلام». لكن ما قيمة هكذا دعوة وهي مشفوعة بإدانة أحادية الجانب؟
هذا النص ليس نص حليف مخلص. إنه نص عدو استثنائي، أخطر من الأعداء المعلنين. لأن ماكرون لا يقاتل معاداة السامية: بل يُؤسِّس لها. لا يقاتل كراهية إسرائيل: بل يُشرعنها.
يومًا ما، ستحكم التاريخ على هذه الازدواجية. وسيتذكر المرء أنه في اللحظة التي احتاج فيها يهود فرنسا إلى حصن، قدّم لهم إيمانويل ماكرون مانع صواعق مثقوبًا.
«أقسى الأعداء غالبًا هو من يدّعي أنه صديقك.» — مثل عبري