د.شادي أحمد (اقتصادي سوري)*
شهدت الليرة السورية منذ عام 2011 انهيارًا متسارعًا في قيمتها، إذ كان سعر الصرف يقارب 50 ليرة للدولار الواحد قبيل الأزمة، بينما تجاوز في عام 2025 حاجز 10,000 ليرة للدولار في السوق السوداء، مع تسجيل بعض الذروات الاستثنائية أعلى قليلًا. هذا التدهور عكس حجم الضغوط التضخمية التي تعرضت لها البلاد نتيجة الحرب والعقوبات الدولية والانكماش الإنتاجي، فضلًا عن توسع اقتصاد الظل والفساد وضعف الثقة بالسياسات النقدية.
خلال سنوات الحرب، اعتمدت الدولة سياسة التمويل بالعجز عبر التوسع في الإصدار النقدي، مما أدى إلى تضخم هائل في الكتلة النقدية المتداولة، التي باتت – وفق تقديرات غير رسمية – في حدود 30–40 ألف مليار ليرة سورية مع نهاية 2024. ومع ارتفاع الأسعار بشكل متواصل، أصبحت الفئات النقدية المتداولة غير كافية لتغطية المعاملات اليومية إلا بأحجام ضخمة.
في هذا السياق، تطرح السلطات النقدية خيار حذف صفرين من العملة. أي أن 10,000 ليرة قد تصبح 100 ليرة جديدة. هذا الإجراء يعطي انطباعًا بأن الأرقام باتت “أصغر” وأسهل في الاستخدام، لكنه لا يغير شيئًا من القيمة الحقيقية أو من القدرة الشرائية للمواطن.
الإيجابيات المحتملة
1. تبسيط المعاملات المالية
يُعتبر التغيير وسيلة عملية لتسهيل الحسابات، سواء في التداولات التجارية أو في الدفاتر المحاسبية أو حتى في الحياة اليومية. فعوضًا عن أن يشتري المواطن ربطة خبز بـ 3,000 ليرة، سيشتريها بـ 30 ليرة جديدة.هذه البساطة قد تبدو شكلية، لكنها مهمة من زاوية الإدراك النفسي، حيث تخفف من وطأة التعامل بأرقام ضخمة.
2. أثر رمزي ونفسي على الثقة بالعملة
في تجارب أخرى – مثل تركيا 2005 حين حذفت 6 أصفار من عملتها – أدى الإجراء إلى تعزيز ثقة المواطن نسبيًا بالعملة. ولكن نجاح التجربة التركية كان مرهونًا بوجود إصلاح اقتصادي شامل وتدفق استثمارات أجنبية.في سوريا، يمكن أن يلعب العامل الرمزي دورًا مؤقتًا في استعادة بعض الثقة، لكنه سيظل هشًا ما لم يرافقه إصلاح هيكلي.
3. تخفيض تدريجي لتكاليف الطباعة والتداول
الفئات النقدية الصغيرة (10 – 25 – 50 ليرة جديدة) قد تحل محل الأوراق الضخمة الحالية (10,000 – 25,000 ليرة)، وهذا يعني أن كلفة الطباعة المستقبلية ستنخفض، كما ستصبح عمليات النقل والتخزين أسهل.
السلبيات والمخاطر
1. التكلفة المباشرة للعملية
تُقدَّر تكلفة إصدار ورقة نقدية جديدة عالميًا بين 5 – 10 سنتات أمريكية. وإذا كان في سوريا نحو 1.5 – 2 مليار ورقة نقدية متداولة، فإن كلفة الطباعة وحدها تتراوح بين 75 – 150 مليون دولار. هذا رقم ضخم بالنظر إلى شحّ القطع الأجنبي، وهو يمثل عبئًا إضافيًا على الاقتصاد.
2. الضغط على سعر الصرف
الخبرة التاريخية تظهر أن كل تغيير مفاجئ في العملة قد يثير موجة مضاربة. في فنزويلا مثلًا، كل عملية حذف للأصفار كانت تسبقها أو تليها قفزات جديدة في سعر الدولار الأسود.
في سوريا، يتوقع أن يلجأ المواطنون وأمراء الحرب والمضاربون إلى التحويل المكثف نحو الدولار والذهب لحماية أموالهم، ما قد يدفع سعر الصرف من حدود 10,000 ليرة للدولار إلى مستويات أعلى، ربما 12,000 – 15,000 ليرة خلال فترة قصيرة.
3. إرباك الأنظمة المالية والمحاسبية
إعادة تسعير الرواتب والعقود والديون تتطلب عملية دقيقة. أي خطأ أو فجوة في هذه المرحلة قد يؤدي إلى تلاعب أو خسائر، خصوصًا في ظل ضعف البنية المصرفية السورية.
4. محدودية الأثر على التضخم
الأسباب الجذرية للتضخم – ضعف الإنتاج المحلي، تراجع الصادرات، العقوبات، العجز المالي، اقتصاد الحرب – لن تتأثر بمجرد تغيير الأصفار. أي أن الأسعار ستواصل ارتفاعها، ولن يشعر المواطن بتحسن ملموس.
أبعاد إضافية: مقارنات دولية
تركيا (2005): حذفت 6 أصفار ونجحت نسبيًا بفضل دعم صندوق النقد الدولي وإصلاحات اقتصادية قوية.
البرازيل (1986–1994): حذفت الأصفار عدة مرات (أكثر من 6 تغييرات)، لكن التضخم استمر حتى جاء برنامج “بلانو ريال” الذي ربط العملة بالإصلاحات.
فنزويلا (2008–2020): حذفت الأصفار أكثر من مرة، لكن الانهيار استمر بسبب غياب أي إصلاح اقتصادي.
هذه التجارب تثبت أن حذف الأصفار ليس حلًا بذاته، بل مجرد أداة تجميلية ما لم يقترن بإصلاحات هيكلية شاملة.
النتائج المستقبلية
قد يحقق الإجراء بعض الإيجابيات الشكلية مثل تبسيط الحسابات، وتخفيض التكاليف المحاسبية، ومنح دفعة نفسية للمواطنين. لكن من المرجح أن يرافقه:
ضغط على سعر الصرف بسبب هروب الرساميل.
تكاليف مالية ضخمة لإصدار العملة الجديدة.
ارتباك إداري ومحاسبي.
وبالتالي، فإن نجاح العملية مشروط بوجود رزمة متكاملة من الإصلاحات، تشمل:
ضبط الكتلة النقدية عبر سياسات نقدية متشددة.
مكافحة اقتصاد الظل وأمراء الحرب.
دعم الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الاستيراد.
تعزيز الشفافية والثقة بالسياسة النقدية.
الخلاصة
إن حذف صفرين من الليرة السورية قد يسهم في تحسين الشكل الظاهري للتداولات النقدية، لكنه ليس حلًا لمشاكل التضخم أو ضعف الإنتاج. من دون إصلاح اقتصادي عميق، ستظل الخطوة أقرب إلى تغيير تجميلي يحمل أثرًا نفسيًا مؤقتًا، بينما تبقى الأزمات البنيوية على حالها.
مقترحات عملية:
1. مرحلية التنفيذ: البدء بطرح العملة الجديدة تدريجيًا إلى جانب القديمة لمدة لا تقل عن سنتين لتجنب الصدمات.
2. ربط الإجراء بحزمة إصلاحية: خصوصًا في مجالات المالية العامة (ضبط العجز) والإنتاج المحلي (تشجيع الزراعة والصناعة).
3. تعزيز الرقابة المصرفية: لمنع التلاعب أثناء إعادة التسعير، خصوصًا في العقود والديون.
4. توعية المواطنين: عبر برامج إعلامية وتوعوية تشرح معنى الحذف وتؤكد أنه لا يؤثر على القوة الشرائية.
5. حماية سعر الصرف: بتأمين احتياطيات معقولة من الدولار والذهب لامتصاص موجات المضاربة المتوقعة.
* نُشرت هذه المقالة في شبكة “سيريا مورس” الأميركية