لنفترض أنَّ مُعجزةً حصلت في لُبنان، ونجحت الدولةَ في تسلُّم كلّ السلاح من حزب الله والمنظّمات الفلسطينيّة كافّة. وانتشر الجيشُ والقوى الأمنيّة على كلّ الأراضي اللُبنانيّة من الجنوب الى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، وصار شُرطي البلديّة قادرًا على فرض هيبة الدولة بمجرد أن يستخدم صفّارته، وقامت مؤسساتُ الدولة، وانتعش الاقتصاد، وجاءت الوفود السياحيّة من كُلِّ حَدَبٍ وصوب، وقامت المصارف من تحت الرماد، وصارت مرافئ بيروت وطرابلس وصيدا وصور ومطار بيروت والمطارات الأخرى الموعودة أعجز من أن تلحق بالحركة التجارية والسياحيّة ونقل البضائع والركّاب… هل ستفرح إسرائيل؟
يجب أن يكون المرءُ ساذَجًا، كي يعتقد أنَّ إسرائيل قَبِلت يومًا ما أو ستقبل، قيامَ دولةٍ لُبنانيّة قادرة، وسيّدة ومستقلّة، وفارِضة هيبتَها على كلِّ الأراضي اللُبنانيّة. فلا شيءَ أفرحَ إسرائيل في لُبنان أكثر من الميليشيّات التي فرَّخت على أرضِه مُنذ سبعينيات القرن الماضي (يمينًا ويسارًا)، ولا شيء عزّز أملَها بتقسيم بلاد الأرز، أكثرَ من المشاريع التي سعت لبناء دولةٍ داخلَ الدولة وضدّ الدولة في لُبنان منذ الشرارات الأولى للحرب الأهليّة، وحين كانت الأطراف الداخلية تعجز عن بناء دولة داخل الدولة، كانت إسرائيل نفسها تسارع الى تأسيس دويلات مُباشرة أو عبر الدعم غير المُباشر.
لبنان بين والي عكّا ووالي الشام
لنتذكّر أنَّ تقاسم النفوذ الذي رعاه وزير الخارجية الأميركيّة هنري كيسنجر بين إسرائيل وسورية، سمح للرئيس حافظ الأسد بأن يُسيطر طويلاً على القرار السياسيّ في لُبنان، شرطَ تحديد أنواع الأسلحة التي سيُدخلها إلى لُبنان وحدود انتشارِها بعيدًا عن الجنوب. وكان من بنود الاتفاق السرّي منع أي عمل مُسلّح ضد إسرائيل عبر الحدود اللُبنانيّة، وتهميش الحركة الوطنيّة بقيادة كمال جُنبلاط، و “تدجين” المنظمات الفلسطينيّة، وإضعاف دور الزعيم الفلسطينيّ ياسر عرفات، مع الالتزام بخط استراتيجي سياسيّ يسمح للرئيس حافظ الأسد بانتقاد اتفاق ” كامب-دافيد” دون أن يؤثّر ذلك فعليًّا عليه.
تغيّرت المعادلة مرّتين، الأولى حين تمرّد عرفات على قيادة الأسد، وقرّر توسيع دوره في لُبنان بالاعتماد على الحركة الوطنيّة وأيضًا بعض الخارج ومنه العراق، فتم تطويق الحركة الوطنية واغتيال جنبلاط قُبل نحو عام من كامب دافيد (يجب التمعّن بتلك المُصادفة)، ثم وقع الاجتياح الإسرائيلي الذي شهد اشتباكًا في البقاع مع الجيش السوري، لكنّه لم يمنع عودة سورية إلى لُبنان لاحقًا وبقوّة أكبر. والمرّة الثانية حين نشأ حزبُ الله بدعمٍ مُباشر من إيران، مع تضييقٍ سوريّ في البداية عليه ( راجع كتاب النائب حسن فضل الله) ثم الانتقال للتحالف معه. وسرعان ما صار الحزب بسلاحه، وتنظيمه الدقيق وقدراته القتالية، هدفًا إسرائيليًّا وغربيًّا لا بُدّ من اقتلاعه خصوصًا أنّه منذ بدايته اتُهم بتفجير مقر المارينز الأميركي وغيره.
الحزب وإسرائيل معادلة الجنوب
كانت المُعادلة بين الحزب وإسرائيل واضحة، بحيث تعتمد على مبدأ التوازن في الضربات، فإذا قتلت إسرائيل عنصرًا من الحزب يردّ بقتل جُنديّ، وإن دمّرت آلية له، يُدمّر لها آلية. ولم تنقلب الأمور رأسًا على عقِب الاّ بعد الاعتداءات الإرهابيّة على مركز التجارة العالميّ في نيويورك، والتأسيس لسياسة ” الخير والشرّ” مع جورج دبليو بوش، واجتياح العراق وتهديد سورية، وما تبع ذلك من اتفاق بين بوش والرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك بتطويق ” الهلال الشيعي”، وكان شيراك يفترض، وفق ما نفهم من كتاب مذكّراته ومن كتاب ” سرّ الرؤساء” للكاتب الفرنسي فنسان نوزيّ، أنَّ إخراج الجيش السوري من لُبنان سيؤدي إلى اسقاط نظام بشّار الأسد.
لا يُمكن فهم أسباب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والفتنة المذهبية في العراق، وانتشار داعش، ثم الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله في العام 2006 الاّ في سياق تضارب المشروعين: إيران وحلفاؤها من جهة، وأميركا وفرنسا وإسرائيل وحلفاؤها من جهة ثانية.
نتنياهو وتجريد الحزب من سلاحه
اليوم وبعد كلّ الذي حصل، وخصوصًا في أعقاب انكشاف القدرات العسكرية لحزب اللّه أمام التكنولوجيا الإسرائيلية، واقتناع نتنياهو بأنّه انتصر على سبع جبهات، صار المطلب الإسرائيلي من لُبنان مُستندًا إلى فكرة واحدة: تجريد الحزب من سلاحه قبل نهاية العام الحالي، واستسلام الحزب ومَن خلفه، وضمان أمن إسرائيل الحدوديّ، وتغيير المعادلة في الجنوب برعاية أميركيّة.
هذا فقط ما يهمّ إسرائيل، وكلّ ما يقال عن ضرورة نشر الجيش اللُبنانيّ على كلّ الأراضي اللُبنانيّة، ومحاربة الفساد وإصلاح الدولة، أمورٌ لا تهمّ إسرائيل، بل تهتمّ بها الولايات المتحدة الأميركية ودول اللجنة الخُماسيّة.
لذلك رأينا، أنّه في حين كان لُبنان ينتظر جواب إسرائيل على الورقة الأميركية التي وافق عليها لُبنان، فإن نتنياهو كان يُرسل يوميًّا مُقدِّمات هذا الجواب، بقتل عناصر من حزب الله، أو تدمير وتفجير مناطق، أو التوغل في مناطق أخرى، وصولاً الى تفتيش بيوت ومصانع، والصاق تحذيرات على أبوابها، مع الاستمرار بإرسال المسيّرات التي تُراقب دبيب النمل. هو تعمّد ذلك فيما كان توم باراك عنده، كي يقول إنّه لن يلتزم بشيء الاّ إذا تم نزع سلاح حزب الله.
هامش جوزف عون ضيّق ولكن…
من هُنا بالضبط تكمن صعوبة المرحلة الحاليّة رغم كلَّ الوعود المعسولة من قِبَل توم باراك والمبعوثين الآخرين، فإذا كان هدف إسرائيل الوحيد هو استسلام حزب الله وتدمير ما بقي لديه من أسلحة وليس بناء الدولة وانتعاش الاقتصاد والمؤسسات والمرافئ والمطار والمصارف ، فما هو الهامش المُتاح أمام الدولة اللُبنانيّة للمناورة في هذا الملف، بحيث ترجئ تنفيذ خطة سحب السلاح بانتظار اتفاقٍ سيكون سيّدُه من الجانب الشيعي الرئيس نبيه برّي، لكن دون أن يؤدي التأخير في ذلك إلى استئناف إسرائيل عملياتٍ أوسع ضد الحزب، ودون أن يُعيق قدر الدورة على الاستمرار في الإصلاحات المنشودة داخليًّا، والمطلوبة دوليًّا وعربيًّا.
الحزب أعدّ النفس لمواجهة ذلك بالشارع، انطلاقًا من محاولة تطويق حكومة نوّاف سلام، وهذا قد يثير شارعًا آخر (وهنا سيكون الوضع كارثيًّا على الجميع). والرئيس برّي قد يسمح لحركةِ أمل بالمشاركة في الضغط بغية تحسين شروط التفاوض ليس إلاّ، لكنّه في نهاية المطاف يُدرك أكثر من غيره، أنَّ ثمَّة صحفةً طويت ويجب التعامل مع واقع جديد رغم كلّ ما سمعه من المبعوث الإيراني علي لاريجاني من دعمٍ وتطمينات.
كلّ شيء سيتوقّف على مدى ضغط أميركا على إسرائيل لوقف اعتداءاتها على لُبنان من جهة، وعلى حدود ضغطها على لُبنان لتسريع عجلة المطلوب منه. وسيتوقّف أيضًا على نتائج الاجتماع الإيراني الأوروبي غدًا الثُلثاء، وما قد يتبعه أوروبيًّا وأميركيًّا في حال انهيار أمل التفاوض…. فحزبُ الله كان وسيبقى جزءًا أساسيًّا من المعادلة الإيرانية في المنطقة، وسيكون الجزء الأكبر من تمرّده أو قبوله، منطلقًا من انفراجات أو تعقيدات المشهد في المنطقة بين إيران والولايات المتحدة الاميركيّة.
فهل ينجح عهد الرئيس عون في القفز فوق كلّ هذه الأسباب الخارجية، والمضيّ قُدُمًا في ترسيخ دعائم الدولة وطمأنة كل الطوائف رغم صعوبات وفِخاخ ذلك، أم يتراجع أمام ضغوط حزب الله وشارعه كما تراجع كثيرون غيره؟ وهل يستطيع الحزب توسيع هامش مناورته وهو مُدرك تمامًا أن ما قبل الحرب الأخيرة ليس كما بعدها، وأنَّ نتنياهو لن يتردد في العودة وبشراسة أكبر؟
سنرى في الأيام القليلة المُقبلة، بعد ان يفتح المبعوثون الأميركيون أوراقهم العائدون بها من تل أبيب، رغم قناعتي الشخصيّة بأنّهم لن يقنعوا نتنياهو لا الآن ولا بعد مئة عام بالتخلي عن فكرة القضاء على سلاح حزب الله. ولذلك فإذا كان الرئيس عون وإلى جانبه رئيس الحكومة في وضع حسّاس جدًّا وخطير جدًّا في هذه المرحلة، فإن وضع الحزب ليس أفضل رغم كلّ ما يقال في الخطابات، ولذلك فمن الأفضل للجميع منع احتراق الشارع داخليًّا ودرء عدوان إسرائيلي أوسع عبر الحدود، والذهاب نحو بناء الدولة ومؤسساتها، لأن ذلك وحده ما أزعج ويُزعج إسرائيل، ويسحب البساط من تحت أقدام الفِتن المتنقّلة والكامنة تحت الرماد.