سامي كليب:
لا شكّ في أنّ حصر كل السلاح في يد الدولة اللُبنانيّة صارَ مطلبًا واسع الشعبيّة في لُبنان هذه الأيام، لكن هذا الأمر يستوجب استكماله بمسألتين، أولهما أن تكون ثمّة ضمانات فعليّة بأن إسرائيل لن تعتدي على لُبنان كما كانت تفعل منذ ما قبل العام 1948 حتّى اليوم ( وهذه معجزة لو حصلت نظرًا الى خرق اسرائيل كل عهودها واتفاقاتها السابقة)، وثانيهُما أن يكون في لُبنان مشروع دولة حقيقية، يقفز فوق الطوائف والمذاهب والعشائر والقبائل، فلا يشعر الشيعي اليوم بأنّه مهزوم في وطنه، تمامًا كما شعر في لحظة ما المسيحي والسُنيّ والدرزي، ذلك أن تاريخ هذا البلد عرف تقلّبات كثيرة، كان سببُها الاساس فائض القوّة عند طرف داخلي بفضل ارتمائه في أحضان طرف أو أطراف خارجية، فشعر بأنه بطل الانتصار، وسعى لفرض انتصاره على الطوائف الأخرى ثم انهزم. كل الاطراف والطوائف والأحزاب اللُبنانيّة عاشت تقريبًا هذه المعادلة التي تهزم الجميع ومعهم الوطن، وتجعل الخارج هو الرابح الوحيد.
ساذجٌ من يعتقد أنَّ الحرب ما كانت لتعود في أي لحظةٍ وبعنف وشراسة أشدّ مما شهده لُبنان في الأعوام الممتدة من 1975 الى 1990. لم تتغيّر النفوس المشحونة بالمذهبيّة والحقد، لأنَّ لُبنان لم يعرف مصالحة حقيقيّة، وبرنامجًا سياسيًّا، اقتصاديًّا، اجتماعيًّا، نفسيًّا، تربويًّا، وأمنيًّا لتشجيع المواطن على الانتماء إلى الوطن والدولة، لا إلى المذهب والطائفة والمنطقة والقائد المفدّى والزعيم ورجال الدين.
ما أكثر الكُتب وما أقلّ القرّاء عما سبق ورافق تلك الحرب اللعينة، يكفي أن نقرأ مذكّرات وزير الخارجية الأميركية السابق هنري كيسنجر ونُقرِنها بكتب بثينة شعبان ( مترجمة حافظ الأسد ومستشارة بشّار الأسد)، لنفهم حقيقة ما حصل بُعيد حرب 1973 وحتى اتفاق كامب-دافيد الإسرائيلي المصري وما تلاه، فُلبنان كان آنذاك في عين العاصفة، لأربعةِ مطالب: أولها منع تمدّد العمل الفدائي الفلسطيني فيه، وثانيها منع تمدد التيار اليساري بقيادة كمال جنبلاط، وثالثها إقامة علاقات لُبنانية اسرائيليّة، ورابعها إقناع الرئيس السوري حافظ الأسد بهضم كامب دافيد عبر اغراءات أخرى او تحييده عنه، ولذلك قرّرت أميركا أنّ سورية بقيادة حافظ الأسد تستطيع تحقيق هذه الأمور بدعم أميركي وضوء أخضر إسرائيلي. هكذا فقط دخل الجيش السوري إلى لُبنان، خلافًا لكلّ ما يُقال من سذاجاتٍ داخلية لُبنانيّة وتبريرات سوريّة. ( بثينة شعبان نفسها تعترف في كتابها بالضوء الأخضر الإسرائيلي).
يكفي أن يقرأ المرء محضر اللقاء الأخير الذي جمع حافظ الأسد بكمال جنبلاط، قبيل اغتياله، ليُدرك أن الأسد كان قد اتخذ قراره باحتواء اليمين المسيحيّ، وبردع الحركة الوطنيّة وكمال جنبلاط الذي ذهب إليه بأمل الحصول على الضوء الأخضر والسلاح لاستكمال الحرب والقضاء على الكتائب (الذين كان يصفهم بالانعزاليّين) والوصول الى رأس السلطة في انتقام تاريخيّ وشخصي وسياسي نائم منذ سلّم الفرنسيون السلطة الى الموارنة، لكن الأسد رفض ذلك على نحو قاطع بذريعة أنّه لا يريد ارتماء المسيحيّين في أحضان إسرائيل. وهو كان يُدرك في قرارة نفسه أن الفُرصة متاحة تمامًا للسيطرة على كلّ لُبنان، مع احترام الاتفاق مع كيسنجر والشروط الاسرائيليّة المتعلّقة بالخطوط الحُمر للتمدد العسكري جنوبًا ونوعية الأسلحة المسموح إدخالها وبنقاط التمركز.
يكفي أن يقرأ المرء وثائق وزارات الخارجية الغربية، ومذكّرات المبعوثين، واعترافات قادة ومقاتلين لُبنانيّن، ليفهم أنّ لُبنان كان وما زال حتّى اليوم ضحيّة لعبة أمم، غرق فيها طواعيّة أو عنوة، إما لقصر نظر ساسته، أو لأحلام بعضهم بتغيير وجه لُبنان، أو لأوهام بعضهم الآخر بالانتصار على الفريق الآخر بدعم خارجيّ، أو لقلة شرفِ معظمهم حيال بيع الوطن للخارج.
كلُّ القوى التي سعى ساسة لُبنان للاحتماء بها أو طلب العونِ منها أو التذلّل لها، ربحت في لُبنان، بينما خسر الوطن وخسركلُّ مَن تحوّل الى مُجرّد بيدق في خدمة هذا الطرف الخارجيّ أو ذاك.
الوطن الذي يقوم على معادلة الطوائف والمذاهب، سيبقى مهزومًا، لأنّ التوافق والانسجام لا يكونان عادة بين مذاهب تُكفّر بعضها، بل بين أبناء الوطن المترفّعين عن الطوائف والمذاهب، والمؤمنين ببناء وطنٍ سيّد، حُر، ومستقل.
المطلوب اليوم، هو قناعة الجميع بضرورة بناء وطن، بعدما فشلت كل الاحزاب والتنظيمات والميليشيات ببناء دولة حقيقية أو المساهمة ببناء دولة ( رغم اختلاف آدائها ودورها حيال الوطن وأعدائه)، والمطلوب تشكيل وحدة وطنية حقيقية ضد من يعتدي على أرض الوطن، واعتراف الجميع بهوية هذا العدو الذي لم يوفّر فرصة الا وانتهزها. وأما التعامل مع الخارج فيفترض ان ينطلق من بناء وطنيّ حقيقيّ وعميق، بحيث لا يُفرّق لُبنان بين دولة وأخرى الا بقدر ما تساهم في بناء الوطن وتعزيز مؤسسات الدولة وضمان استقلال لُبنان وسيادته…
كفانا بيادق يتم تحريكها على رقعة شطرنج الدول الكُبرى، فالبيدق يبقى بيدقًا، ولن يكون أبدًا هو المنتصر، بل من يُحرّكه.