إسلام كيتا-تومبوكتو

أقرّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رسمياً بأن فرنسا شنت حرباً اتسمت بـعنف قمعي في الكاميرون ضد حركات التمرد قبل الاستقلال وبعده في العام 1960 ، وهذا يُعتبر أول تأييد لخلاصات تقرير لمؤرخين قُدّم إليه في كانون الثاني/ يناير الماضي وأظهر :” أن حرباً اندلعت في الكاميرون، مارست خلالها السلطات الاستعمارية والجيش الفرنسي عنفاً قمعياً متعدد الأوجه”،
جاء اعتراف ماكرون هذا في رسالة بعث بها إلى نظيره الكاميروني بول بيا. وكان لافتًا استخدامه غير مرة كلمة ” حرب” وهي العبارة التي رفضت السلطات الفرنسية السابقة الاعتراف بها ، وقال بوضوح إن «الحرب استمرت بعد عام 1960 مع دعم فرنسا للأعمال التي قامت بها السلطات الكاميرونية المستقلة،، ويقع على عاتقي اليوم تحمّل دور فرنسا ومسؤوليتها في هذه الأحداث”.
وتتساءل أوساط كثيرة عن سبب إقدام ماكرون على هذا الاعتراف بالنسبة للكاميرون، بينما رفض فتح أرشيف مجازر فرنسا في الجزائر في خلال الثورة التي أدت الى مقتل نحو 5 ملايين ونصف المليون ، وهذا الأمر ما زال يطرح مُشكلة كبيرة مع السلطات الجزائرية الحاليّة بقيادة الرئيس عبد المجيد تبّون. فهل بدأ سيّد الاليزة يعي خطورة ذلك الآن، خصوصًا بعد أن فقدت بلاده الكثير من مواقعها التاريخية وقواعدها العسكرية في القارة السمراء .
فرنسا تخسر قواعدها في افريقيا
الواقع أنّه على مدى عقود، شكّلت غرب ووسط أفريقيا امتدادًا طبيعيًا لنفوذ فرنسا العسكري والاقتصادي، لكن المشهد تغيَّر بين 2022 و2025 سريعًا. من عمليات طرد متزامن في الساحل إلى تسليم قواعد استراتيجية، إلى جانب تراجع اقتصادي واضح في التبادل التجاري القاري. فهل تتهيّأ فرنسا للخروج النهائي من أفريقيا، وخصوصًا من مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر ، حيث بدأت باريس تبحث عن مخرج بعد الانقلابات التي أطاحت بوجودها العسكري، فيما شكّلت هذه الدول تحالفًا أمنيًا مستقلًا باسم تحالف دول الساحل، رمزيًا لابتعادها عن باريس ، أم أن الرئيس ماكرون يسعى ولو بصعوبة بالغة لانقاذ ما يُمكن انقاذه. يبدو الرئيس في وضع لا يُحسد عليه.
فهذه تشاد أيضًا أعلنت انتهاء اتفاقية الدفاع مع فرنسا في نوفمبر 2024، وتسلمت السلطات التشادية قواعد عسكرية مثل “أبّاتشي” و”سارجنت أجي كوسي 172″ بحلول يناير 2025، وهكذا فعلت السنغال أيضًا في 17 يوليو 2025، حيث سلمت فرنسا آخر قواعدها – معسكر “Camp Geille” ومرفق الاتصالات في داكار – لتعلن رسمياً انتهاء وجودها الدائم.
وسارت دولة كوت ديفوار ( ساحل العاج) في الطريق عينه حيث بدأ الانسحاب في يناير 2025 بتنظيم محلي–فرنسي. سلّمت فرنسا قاعدة “Camp Thomas d’Aquin Ouattara”، بعد أكثر من خمسين عامًا على وجودها العسكري ، وهذا يعني أنه لم يبق لفرنسا على ارض افريقيا غير قاعدتين عسكريتين وبضع مئات من الجنود في الغابون وجيبوتي، وقد لا يكون هذا الأمر دائمًا.
العلاقات التبادُلية:
الواضح أن الانسحاب الفرنسي لا يقتصر على الجيش والقواعد العسكرية، بل امتد ايضا الى النفوذ الاقتصادي، فعجز التجارة الإجمالي لفرنسا مستمر؛ ومن المتوقع أن يصل العجز التجاري الإجمالي في 2024 إلى 95 مليار يورو، نتيجة ارتفاع الواردات (خاصة من الطاقة والسلع الوسيطة ).
أمام هذا الواقع الصعب تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بـ”إعادة تنظيم” وجود فرنسا أمنيًا، عبر ميزانية أقل على قواعد وعلاقات أكثر تركيزًا على التدريب والتعاون. إلا أن قادة مثل السنغال وتشاد أوضحوا أن القرارات اتُّخذت سياديًا ولم تكن جزءًا من مقترحات باريس. ويشير محللون يشيرون إلى أن هذا التراجع لا يقتصر على الحضور العسكري فقط، بل هو بداية لفقدان التأثير التجاري المتعدد العقود، خاصة مع صعود اللاعبين الجدد—روسيا، الصين، الخليج وصعود سياسات “ما بعد فرانكافريك”.
في يوليو 2022، أعلن الرئيس الفرنسي في الكاميرون انطلاق عمل لجنة فرنسية – كاميرونية مشتركة تهدف إلى تسليط الضوء على ما قامت به فرنسا ضد الاستقلال وحركات المعارضة في الكاميرون بين عامي 1945 و1971.
يُعدّ تقرير هذه اللجنة التي ترأستها المؤرخة كارين راموندي، جزءاً من سياسة ماكرون في مجال الذاكرة تجاه أفريقيا، عقب تقارير مماثلة عن رواندا والجزائر، وهي محطات قاتمة أخرى في تاريخ السياسة الفرنسية في أفريقيا.
وقال ماكرون إن التقرير المتعلق بالكاميرون، والبحوث المتوقع أن تتبعه، «سيسمح لنا بمواصلة بناء المستقبل معاً، وتعزيز العلاقة الوثيقة التي تجمع فرنسا والكاميرون، بما فيها من روابط إنسانية بين مجتمعاتنا المدنية وشبابنا».
فهل بدأ الرئيس ماكرون يشعر بخطر عدم مراجعة التاريخ، وهل تصحيحه هذا المسار سيعيد بعض النفوذ الفرنسي الى افريقيا، أم ان القطار فات باريس وان دولاً اخرى بدأت تأخذ مكانها من الجزائر حتى أقصى الساحل والجنوب الافريقيين؟
