د.محمد سليمان ‘ كنت شاهدًا على لحظة تاريخية في جوبا ، حين انفصل جنوب السودان عن الشمال وأعلن قيام دولته المستقلة. يومها امتلأت الشوارع بالرقصات الشعبية، والطبول دقت حتى الفجر، والناس عانقت بعضها فرحًا بنهاية عقود من الحرب والدماء. كانت الآمال عظيمة بأن تتحول الدولة الوليدة إلى “الجنة الموعودة” التي وعد بها القادة شعبهم، لكن بعد أكثر من عقد على الاستقلال، تبددت الأحلام، وحلّت مكانها أزمات متشابكة سياسية واقتصادية واجتماعية
وعود الاستقلال وصدمات الواقع
انفصل الجنوب وفي جعبته أكبر وعود بالسلام والتنمية، لكن سرعان ما اندلعت الخلافات السياسية بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار عام 2013، لتتحول إلى حرب أهلية مدمرة أودت بحياة نحو عشرات الآلاف ، وشرّدت ما يزيد على 4 ملايين مواطن داخل البلاد وخارجها. وعلى الرغم من توقيع اتفاقات سلام متكررة، ظل خطر الانزلاق إلى صراع جديد قائمًا، وهو ما تؤكده تقارير الأمم المتحدة حتى عام 2025.

ثروات بلا استثمار
يمتلك جنوب السودان ثروات طبيعية هائلة كان يمكن أن تكون قاعدة الانطلاق نحو الازدهار:
النفط: يقدَّر الاحتياطي بنحو 3.5 مليار برميل، ويشكل أكثر من 90% من إيرادات الدولة. إنتاج البلاد يتراوح بين 150 إلى 170 ألف برميل يوميًا، يتم تصدير معظمها عبر أنابيب تمر بالأراضي السودانية، ما يجعل الاقتصاد رهينة للتقلبات السياسية مع الخرطوم.
الذهب والمعادن: تشير تقديرات محلية إلى أن الاحتياطي من الذهب يتجاوز 300 طن، إضافة إلى معادن مثل النحاس واليورانيوم، لكن الاستغلال يتم بطرق تقليدية أو عبر شبكات غير رسمية.
الأراضي الزراعية: يمتلك الجنوب أكثر من 30 مليون هكتار صالحة للزراعة، إلا أن نسبة ضئيلة فقط تُستغل بسبب ضعف البنية التحتية وغياب الاستثمارات.
الثروة الحيوانية:تقدر الثروة الحيوانية في جنوب السودان بحوالي 36.2 مليون رأس من الماشية، والماعز، والأغنام، وفقًا لتقديرات عام 2025. هذا يجعل جنوب السودان غنيًا بالثروة الحيوانية، والتي تعتبر مصدرًا هامًا للاقتصاد.
ورغم هذه الثروات، يعيش أكثر من 70% من السكان تحت خط الفقر، ويعتمد نحو 7 ملايين شخص على المساعدات الإنسانية، وفق بيانات الأمم المتحدة لعام 2025.
اقتصاد هش وديون متزايدة
يعاني اقتصاد جنوب السودان من ضغوط خانقة؛ إذ بلغت الديون الخارجية أكثر من 13 مليار دولار بحلول 2024، معظمها ناتج عن قروض مرهونة بالنفط. إضافة إلى ذلك، تآكلت العملة المحلية وارتفع التضخم إلى مستويات قياسية، ما جعل أسعار الغذاء والوقود بعيدة عن متناول غالبية السكان.
المأزق السياسي وأفق الديمقراطية
إلى جانب الاقتصاد، تعاني الدولة من غياب مؤسسات قوية قادرة على إدارة التنوع القبلي والسياسي. لم تنجح النخبة الحاكمة في بناء نظام ديمقراطي حقيقي يتيح تداول السلطة، بل تحولت الدولة إلى ساحة لتقاسم النفوذ بين قيادات سياسية وعسكرية.
كيف تتحول “الجنة الموعودة” إلى واقع؟
الخروج من المأزق الراهن يتطلب قرارات شجاعة على ثلاثة مستويات:
إصلاح سياسي: تأسيس نظام ديمقراطي يضمن التداول السلمي للسلطة، ويعزز الشفافية والمساءلة.
إدارة رشيدة للثروات: توجيه عائدات النفط والذهب لبناء البنية التحتية من طرق ومستشفيات ومدارس، بدلًا من تمويل الصراعات أو تغذية الفساد.
تنويع الاقتصاد: استغلال الأراضي الزراعية الشاسعة والموارد المائية لتحويل جنوب السودان إلى سلة غذاء إقليمية، وتقليل الاعتماد شبه الكلي على النفط.
الخلاصة
يوم الاستقلال عام 2011 بدا وكأنه بداية عصر جديد لشعب أنهكته الحروب، لكن غياب الرؤية الاستراتيجية، واستشراء الفساد، واستمرار النزاعات، جعلت “الجنة الموعودة” بعيدة المنال. ومع ذلك، ما زال أمام جنوب السودان فرصة حقيقية إذا ما وُظفت ثرواته الهائلة في خدمة التنمية، وتم بناء دولة مؤسسات قائمة على العدالة والديمقراطية. عندها فقط، يمكن أن يتحقق الحلم الذي راود الملايين يوم رفع علم الاستقلال في جوبا.