جلس العالم مترقبًا خطوات الرجلين على السجادة الحمراء في ألاسكا.
في المسافة الفاصلة بين ابتسامتيهما أو عبوسهما، قبل اللقاء وبعده، تتحرك ملفات العالم من الهند إلى أوكرانيا مرورًا بالشرق الأوسط، وتتحرك البورصات وتنقبض أو تنفرج الأسواق.
وبين الرجلين، تباين كبير في مصالح بلديهما، والكثير من المشتركات في السمات الشخصية، وإعجاب متبادل واضح.
حكم “الرجل الواحد”
يقال إن بوتين حريص على إحياء أفكار الفيلسوف الروسي إيفان إيلين، وعلى الرغم من وفاة هذا الأخير في عام ١٩٥٤م، إلا أن بوتين يعمل على إحياء أفكاره ووضعها في أساس تكتيكه السياسي.
إيلين، الذي شهد الثورة البلشفية في عام ١٩١٧م، عُرف بأفكاره الفاشية الديكتاتورية التي تدعو لحكم الفرد الواحد. بالنسبة له، تستدعي الظروف الاقتصادية والمعيشية القاسية والتهديدات الأمنية الداخلية والخارجية التفاف العامة حول الفرد القائد الذي يُنظر إليه كحامٍ لهم من المخاطر الداخلية والخارجية.
ترامب أبدى مرارًا إعجابه بحكم الرجل الواحد كما في كوريا الشمالية، إذ قال في يونيو ٢٠١٨: “أُريد أن يقف الناس باهتمام من أجلي كما يفعلون مع كيم جونغ أون”. وفي ديسمبر ٢٠١٥، عندما سُئل ترامب عن ما أسماه الصحفي “سجل بوتين القمعي (اغتيال صحافيين وضم القرم)”، جاء دفاع ترامب صادمًا إذ قال: “إنه يدير بلده، وعلى الأقل هو زعيم، خلافًا لما لدينا في هذا البلد”.
الحكم إلى “الأبد”
فلاديمير، كما يحب ترامب أن يخاطبه للدلالة على الود، انتُخب رئيسًا في العام ٢٠٠٠، وهو مستمر منذ خمسةٍ وعشرين عامًا بحكم روسيا من مقعد رئيس البلاد، ورئيس حكومتها بصلاحيات الرئيس لفترة.
ترامب، الذي انتُخب لأول مرة في العام ٢٠١٦، وعاد منتصرًا في العام ٢٠٢٤ بما وصفه “فوزًا سياسيًا لم تشهده البلاد من قبل”، تراوده أحلام الولاية الثالثة، وربما الرابعة والخامسة.
العداء للديمقراطية
في مقال من صحيفة واشنطن بوست، نُشر في ١٥ ديسمبر ٢٠١٥، حول التشابه بين الرجلين، قال الكاتب إن “كلاهما يرى أن سيادة القانون والقواعد الديمقراطية هي لعبة يمكن شراؤها بالمال أو القوة”. وهذه من أوجه الشبه الأكثر خطورة بين ترامب وبوتين، عداؤهما الواضح – قولًا أو فعلًا – للمؤسسات والقواعد الديمقراطية التي تقيّد سلطتهما.
في الحالة الروسية، قضى بوتين على جميع مراكز القوة المستقلة: همّش البرلمان والقضاء، وعدّل الدستور ليستمر في الحكم لفترات طويلة، وقمع المعارضة السياسية.
ترامب يحاول أن يحكم بعقلية “بوتينية”، إذ أظهر نزعة اصطدام بمعظم المؤسسات الدستورية عندما شعر أنها تُعطّل رغبته. لقد هاجم القضاء مرارًا، واستخدم وزارة العدل لحماية حلفائه وملاحقة خصومه سياسيًا، واحتقر استقلالية وكالات إنفاذ القانون مثل الـFBI وشرطة الولايات.
شيطنة الخصوم والتخويف من “الآخر”
لطالما وصف بوتين معارضيه بأنهم عملاء للخارج أو متطرفون. وترامب كذلك دأب على وصف خصومه السياسيين بعبارات مثل “خونة” أو “أعداء أمريكا” (مثلًا وصف الإعلام الليبرالي بأنه عدو الشعب، ووصف خصومه الديمقراطيين بأنهم راديكاليون يسعون لتدمير البلاد).
هذه اللغة التآمرية والمليئة بنظريات المؤامرة مشتركة أيضًا؛ حيث يعتمد كلاهما على نشر روايات لإثارة أنصاره ضد عدو ما: بوتين يروّج نظريات مثل أن الغرب يتآمر لإضعاف روسيا أو أن “الثورات الملوّنة” مؤامرة، وترامب روّج نظريات حول تزوير انتخابات ٢٠٢٠ أو “الدولة العميقة” التي تحاربه.
ولطالما صوّر بوتين المعارضة الداخلية والمجتمع المدني (اتهم المنظمات غير الحكومية بالعمالة للخارج) وكذلك تجاه أوكرانيا. ترامب أيضًا صوّر المهاجرين والمسلمين وخصومه السياسيين على أنهم خطر جسيم، لتبرير سياسات متشددة (حظر السفر، بناء الجدار…).
السمات الشخصية وشخصية المنقذ
يشترك ترامب وبوتين في سمات شخصية لافتة ترتبط بالنمط السلطوي والشعبوي. فكلاهما يمتلك ثقة زائدة بالنفس تصل حد النرجسية، ويعتمد على كاريزما الزعيم القوي الذي يُظهر بأنه قادر وحده على حل المشكلات. وقد تناولت دراسات أكاديمية السمات النرجسية لدى كل منهما.
الكاتبة والصحفية الروسية الأمريكية ماشا غيسن ترى أن كلًا من بوتين وترامب لديه إحساس برسالة قدرية أو هوس بأنه مختار لإنقاذ البلاد: بوتين يعتقد أن مهمته التاريخية هي إنقاذ روسيا وإعادة مجدها، وترامب – رغم مجيئه المفاجئ من خارج المؤسسة – يعتبر فوزه دليلًا على أنه القائد المنقذ الذي سيجعل “أمريكا عظيمة من جديد”.
هذا الشعور برسالة خاصة يعزز الثقة المطلقة لدى كل منهما بصواب قراراته ويقلل تقبلهما للنقد أو النصح.
هذا النهج يقوم على تعظيم شأن السيادة الوطنية ورفض أي قيود دولية، استدعاء أمجاد الماضي الأسطورية والتغني بـ”استعادة العظمة”، والتباهي بقيم محافظة تقليدية (مثل المسيحية) مع رفض التعددية الثقافية والكوزموبوليتية. هذه القيم تتردد في خطابات بوتين (الذي يقدم نفسه كحامي روسيا الأرثوذكسية ضد “انحلال” الغرب) وفي شعارات ترامب (“أمريكا أولًا” والدفاع عن “القيم المسيحية” في مواجهة الهجرة والإسلام الراديكالي).
المدح المتبادل، وترامب المعجب
بوتين عادةً حذر في مديح شخصيات أمريكية لتجنب إظهار انحياز فج، لكنه كسر القاعدة مع ترامب: مدحه في ٢٠١٥ علنًا بأنه “لامع وموهوب”، ورد ترامب: “شرف عظيم لي مدح رجل محترم مثل بوتين”.
إلا أن كفة الإعجاب تميل لجهة بوتين من قِبَل ترامب، إذ يكاد يظهر وكأنه إعجاب أحادي الجانب تقريبًا – أي أن ترامب هو المبادر دائمًا إلى مدح بوتين أو التماس قربه. وربما لم يشهد التاريخ المعاصر رئيسًا أمريكيًا يتصرف بهذه الطريقة تجاه رئيس روسي.
دونالد-بوتين
بعض النظريات، ومنها ما ورد في كتاب الطريق إلى اللاحرية للكاتب تيموثي سنايدر، تعتبر أن بوتين، عبر رجال الأعمال الروس، وعبر “وكالة أبحاث الإنترنت”، دفع إلى انتخاب ترامب، والهدف: تحويل الولايات المتحدة إلى “روسيا بوتين”.
لقاء ألاسكا انتهى من دون نتائج ملموسة، لكن إعجاب رجل العالم الأول بنظيره الروسي يُلْمَسُ في كل لقاء.
وكِلاهُما يُراوِدُهُ حُلمُ الأبد