هناك بلد يسمونه القوة العسكرية الأولى… هكذا تبدأ الحكاية في بقعة جغرافية بعيدة، قارة أخرى… بلد حديث الولادة، بلا أساطير، وُلد على أنقاض شعوب جرى إبادتها، ورفع علمه فوق قارة مسروقة. كل تراثه يمكن تلخيصه في شطيرة برغر دهنية، وحلم أميركي يلمع في رؤوس البعض.
هذا ليس مقال عن حضارة الولايات المتحدة، ولا عن الحروب التي أرسلت فيها أبناءها ليَقتلوا ويُقتلوا، ولا عن الدماء التي نشرتها عبر القارات، ولا عن العولمة التي اختطفت ثقافات الشعوب. هذا المقال عن نفاد ذخيرة السلاح الأميركي. [1]
المصانع التي تصب الحديد والدمار في حروب العالم، تحولت الآن إلى آلات بطيئة ومملة، كأنها تصنع أثاث رخيص من IKEA… هذا العجز يكشف عن واحدة من أكبر الخيبات في التاريخ العسكري الأميركي.
ما الذي ينفد من مخزون البنتاغون؟ كل شيء تقريبا… الطائرات المسيّرة، الصواريخ، الذخيرة. أوكرانيا وحدها تبتلع في أسابيع ما يعادل إنتاج عام كامل من قذائف المدفعية الأميركية [2].
وإسرائيل بدورها تفتح فمها الواسع على المخزون نفسه. هذا الشهر، البنتاغون أوقف إرسال صواريخ “باتريوت”، والصواريخ الموجّهة بدقة، وقذائف الهاوتزر… لا، ضمير اميركا لم يستيقظ، فقط المخازن التي تغذي الحروب بدأت تفرغ، وهي تفيض بدماء من تقصفهم[3].
بعد 7 أكتوبر، هرعت أميركا لدعم إسرائيل: ملايين الدولارات تموّل آلاف الصواريخ، حاملة طائرات في المتوسط، أنظمة دفاع جوي مفعّلة، وقذائف موجهة بعدد لم يُكشف عنه. وكل هذ لحماية المصالح الأميركية ولإعادة إنتاج سردية التفوق العسكري. لكن الحقيقة أقسى: هذه الشحنات يتم ارسالها بينما البنتاغون نفسه يواجه نقص في الذخائر[4].
أميركا، القوة التي وعدت نفسها بخوض حربين في وقت واحد، لا تستطيع الآن إدارة جبهة استنزاف واحدة. هجمات الحوثيين وحدها أجبرت البحرية على إطلاق صواريخ دفاع جوي تكلف الواحدة منها ما يكفي لبناء مدرسة في كاليفورنيا، وستحتاج شهور لتعويضها، إن تمكنت أصلا من تعويضها[5].
الحملة في البحر الأحمر، التي كلفت 1.5 مليار دولار، أفرغت مخازن السلاح أكثر وأكثر: أطلقت الولايات المتحدة 125 صاروخ توماهوك و155 صاروخ من طراز ستاندارد، وفقدت سبع طائرات مسيّرة من طراز ريبر أسقطها الحوثيون[6].
ومع ذلك، يظل الحوثيون مقاومة بدائية مقارنة بالتهديد الحقيقي: الصين.
آه الصين… أي حرب مستقبلية مع الصين لن تصمد أميركا خلالها سوى أسبوع … نعم، سبعة أيام وستنفد الذخيرة [7].
صواريخ الكروز المضادة للسفن (LRASM) هي السلاح الأساسي لتهديد الأسطول الصيني. يملك البنتاغون اليوم نحو 200 من هذه الصواريخ، لكن في أي حرب مستقبلية مع الصين، تحتاج الولايات المتحدة ما بين 800 و1200 منها لردع أو هزيمة أي غزو صيني لتايوان[8].
صحيح أن الولايات المتحدة كثفت بناء السفن الحربية والتجارية خلال الحرب العالمية الثانية، لكنها باعتها بعد الحرب، وأغلقت أحواض بناء السفن. وبسبب التكاليف العالية، تنتج الآن خمس سفن تجارية عابرة للمحيطات مقارنة بـ 1,794 سفينة أنتجتها الصين.[9]
أما السفن العسكرية القليلة التي تبنيها أميركا فهي ايضا باهظة الثمن بشكل مبالغ فيه. اليك هذا المثال: أنفقت البحرية 22.5 مليار دولار لبناء ثلاث مدمرات من فئة زوموالت، لكنها ألغت البرنامج لأن المدفع على متنها كان مكلف للغاية[10].
ألا تستطيع الولايات المتحدة تعويض الأسلحة؟ بلى تستطيع لكن ليس بالسرعة الكافية، وهي تعترف بعدم قدرتها على تلبية الطلب على الذخائر في حال مواجهة خصم مماثل لها بالقوة [11] وحتى بناء السفن الحربية، فقد كان لدى البحرية الأميركية نحو 600 سفينة في عام 1987، وأصبح العدد الآن 300 فقط. قدرة الصين على بناء السفن أكبر بـ 230 مرة … تخيل[12]. الصين اليوم قوى بحرية وتمتلك اكبر اسطول بحري، وأميركا كدست حاملات طائرات عملاقة، باهظة الثمن بلا أي ذخيرة كافية…
الأدهى ان البحرية الأميركية نفسها تقرّ بأن إنتاج الصواريخ الاعتراضية من طراز SM-6القادرة على إسقاط صواريخ كروز وباليستية وربما حتى صواريخ فرط صوتية يواجه عجز في الطاقة الإنتاجية شبيه بعجز تصنيع قذائف 155 ملم… أميركا اقرت رفع إنتاج هذه القذائف إلى مئة الف صاروخ شهريا، لكنها لازالت تنتج 40 ألف، مقابل 14 ألف فقط قبل عامين. المشكلة في المصانع، وفي قلب الصاروخ نفسه أيضا…مشكله اسمها TNT، الذي يستورده البنتاغون من الخارج، خصوصا من كندا. ولإنتاج مئة ألف صاروخ، تحتاج أميركا إلى أطنان من هذه المادة. اذا من 40 الف صاروخ يتم انتاجه هناك نحو 18 الف صاروخ مكدس في المخازن غير صالح للاستعمال بسبب نقص هذه المادة المتفجرة… البنتاغون أقر بخطة لبناء مصانع جديدة، لكن كل هذا بطء قاتل إذا اندلعت الحرب غدا[13].
في هذه الاثناء تمضي الصين في الاتجاه المعاكس: تضيف إلى ترسانتها أسلحة وسفن وحاملات طائرات بوتيرة أسرع بخمس أو ست مرات من الولايات المتحدة، وتنتجها بشكل متزايد محليا[14].
نعم، ما زالت أميركا القوة العسكرية الأولى… لكن أي معنى لسلاح بلا ذخيرة؟ كما وصفت ماكنزي إيغلين الأمر: “من المعجزة أن يمتلك الجيش الأميركي أي شيء ينفجر على الإطلاق” [15].
كيف حصل كل هذا؟
أميركا بنت قوة سلاح عظيمة… مليارات الدولارات أهدرتها الإمبراطورية على أنظمة تسليح باهظة الثمن: طائرات مقاتلة، صواريخ موجهة، حاملات طائرات ، في نفس الوقت التي كانت فيه مخازن الذخيرة تنزف… ميزانية الدفاع الأميركية الضخمة التي تقارب الـ850 مليار دولار سنويا، يُصرف منها فقط 17% على التسلح بينما 22% منها يذهب لرواتب العسكريين، وأكبر جزء، 39%، يذهب للعمليات والصيانة [16].
الترسانة الأميركية مليئة بأسلحة ثقيلة فاخرة، صواريخ توماهوك بسعر 2 مليون دولار للصاروخ، صواريخ اعتراضية بـ28 مليون للصاروخ، ومقاتلات إف-35 بـ100 مليون للطائرة .
المفارقة ظهرت في حرب أوكرانيا التي برهنت ان الكثرة تتفوق على النوعية في حرب طويلة الأمد. كييف ما زالت واقفة نسبيا بفضل طائرات مسيّرة زهيدة الثمن، تنقضّ في أسراب متكررة كالحشرات، بلا تكاليف كبيرة فكرة ذكية[17] لكنها لا تُماشي عقلية البنتاغون المهووسة بالأسلحة الفاخرة. وحتى لو أرادوا اليوم التغيير، المسار محكوم بإجراءات بيروقراطية تستغرق الأعوام، وأنظمة تحتاج خمسة عشر سنة للتطوير[18]… وفي الحرب، خمسة عشر سنة تعني النهاية.
عزيزي القارئ توقف عن قراءة هذه السطور لحظة، وافتح يوتيوب… استمع إلى جيفري ساكس وهو ينتقد سياسة الولايات المتحدة، أو إلى دوغلاس ماكغريغور وهو يعلق على الأسلحة وقدرة المؤسسة العسكرية على تحملها… ثم عُد وأخبرني: هل هذه ترسانة عظمى؟؟…
على الطاولة، وضعت الإدارة الأميركية حلول… لكنها ألغام بحد ذاتها: أحدها ارساء تكنولوجيا تجارية وتخفيف المواصفات الفنية لتسريع الإنتاج، خطوة قد تسرّع لكنها قد تؤثر على الأداء القتالي[19] . حل آخر: بناء مصانع في أميركا وكندا… فكرة ممتازة لحرب تبدأ في 2040[20] … حل ثالث أيضا عبر عقد اتفاقيات إنتاج مشترك مع الحلفاء والشركاء الموثوقين، لكنه خيار بطيء … والوقت اللازم لعقدها يكفي لاندلاع حربين وانتهائهما.
كيف تطمئن أميركا العالم إلى قوتها، وهي لا تستطيع حتى أن تطمئن نفسها أن مخازن اسلحتها لن تفرغ قبل أن يبدأ القتال؟
ترامب يعرف أن أي مواجهة قادمة مع روسيا أو الصين لن تترك له على الطاولة سوى السلاح النووي… قمة ترامب–بوتين في ألاسكا قد تكون فخ على شكل دعوة. الروس يتقدمون في أوكرانيا، والناتو قد يهدد خاصرة موسكو عبر أذربيجان وأرمينيا… ترامب قد يضع بوتين أمام خيار تسليم أراضي، لكن كيف يسلم المنتصر أراضيه؟ بوتين يفهم ذلك، ويريد تفادي حرب نووية، وقد يختار طريقة ثالثة: رشوة جيوسياسية، كأن يمنح ترامب رخصة للتنقيب عن المعادن النادرة… ممكن؟ على كل حال بوتين لن يرضخ لاي من شروط ترامب الذي لا يستطيع تقديم له أي شيء…
أوروبا مهمشة، فرنسا وألمانيا فقدتا وزنهما…أما زيلينسكي، فكما فُرضت عليه الحرب، وسيُفرض عليه شكل السلام… اجتماع ترامب- بوتين اليوم يبدو أقرب إلى قاعة مزاد، قد تحاول أميركا شراء هدنة مؤقتة لتلملم ما تبقى من مخزونها قبل أن تدق الصين باب تايوان. ما الذي سيحصل في ألاسكا اليوم؟
ربما يكتشف ترامب أن أسهل طريقة لكسب الحرب هي أن يتركها لغيره، فيضعها بين يدي أوروبا المندهشة، التي ستجري إلى أحضان حلف الأطلسي، بينما سيحتفظ ترامب بورقة الاطلسي التي قد يلعبها في مغامرة أكبر حين تقرر الصين أن تسترجع تايوان.
أما ما يملكه الروس والصينيون من صواريخ وتكنولوجيا، فهذا شبح يعبر ممرات البنتاغون كل يوم… لكنني سأتركه الآن، فهذه قصة أخرى، تصلح لمقال آخر عن أوهام الردع وكابوس يضغط على صدر الإمبراطورية التي تظن نفسها انها لا تُهزم.
1] Bryant Harris, US seeks to ramp up munitions production for Ukraine, Defense News, Israel. 31 أكتوبر 2023.
[2] Benjamin Parker, Foreign Policy, US Military Aid to Ukrain . 13 مارس 2024
[3] المرجع السابق, Bryant Harris, Defense News.
[4] Bradley Bowman وMark Montgomery, America’s arsenal is in need of life support، Defense News، 12 أكتوبر 2022.
[5] Business Insider، Houthi attacks exposed US Navy ammo supply shortfalls
تصريحات الأميرال جيمس كيلبي أمام لجنة الاعتمادات في مجلس النواب، 15 مايو 2025.
[6] AP News، US Red Sea operations costs, 20 يونيو 2024.
[7] Center for a New American Security، Dangerous Straits: Wargaming a Future Conflict over Taiwan, 2023.
[8] Bradley Bowman وMark Montgomery , المرجع السابق, Defense News.
[9] The Week US، The Pentagon’s missing missiles، The Week يوليو 28 2025.
[10] مرجع سابق The Week US.
[11] Heritage Foundation, W. Beaver, America Must Remedy Its Dangerous Lack of Munitions, 2023.
[12] AP News, Dwarfed by China in shipbuilding, 2024.
[13] Sam Skove, Newsweek , US Army plans to ramp up artillery production for Ukraine, 7 فبراير 2024.
[14] Bryant Harris و Noah Robertson, Defense News, Soaring US munitions demand strains support for Israel, Ukraine, Taiwan, 30 أبريل 2024 .
[15] المرجع السابق, Defense News, 12 أكتوبر 2022.
[16] The Week US, The Pentagon’s missing missiles, The Week, 28 يوليو 2025
[17] Benjamin Parker , Foreign Policy ، US Military Aid to Ukraine, 13 مارس 2024.
[18] Stacie Pettyjohn وHannah Dennis, The Pentagon Isn’t Buying Enough Ammo, Foreign Policy , 21 مايو 2024 .
[19] المرجع السابق , Defense News, 30 أبريل 2024 .
[20] المرجع السابق , The Week, 28 يوليو 2025.