سامي كليب: لم يقل نوّاف سلام شيئًا جديدًا حتّى يثير كلَّ هذه الضجّة حوله. هو يُعيد قراءة اتفاق الطائف، والاتفاقات الأخرى التي صاغتها الحكومات السابقة وخصوصًا حكومة نجيب ميقاتي بشأن حصرية السلاح بيد الدولة والتي وافق عليها حزب الله وحركة أمل. لكنَّ صراحته في التعبير عن كلّ ذلك وطريقة كلامه المُباشرة وبلا أقنعة، والشكوك التي يرسمها خصومُه حوله، جعلت رئيس حكومة لبنان شخصًا غير مرغوب به عند حزب الله وقسمٍ كبير من الشيعة، وهذا لوحده يفرش سجادًا أحمر له في طريق زعامةٍ كادت تضيع في الطائفة السُنيّة في لُبنان، لكنّ هذا أيضًا يحفر أمامَه فِخاخ الخطر السياسيّ وربما الخطر على حياته، ذلك أن عوامل عديدة قد تتقاطع ضدّه، وأطرافًا عديدة قد تفيدُ من تطويقه أو تغييبه.
شخصيّة نوّاف سلام استثنائيّة ومثيرة فعلاً للجدل، ففيها شيءٌ من رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، وفيها بعضٌ من شخصيات قُدامى الشيوعيّين، وبعضٌ آخر من عنادِ وصرامة كمال جنبلاط، بقدر ما فيها من قدرة على ضبط الانفعالات، والإيحاء بالتَمَاس مع هموم الناس.
تَشي ملامحُه بحذرِ رجُل اعتاد أنْ يزنَ كلماتِه قبل أنْ ينطق بها.
توحي نظراتُه التي غالِبًا ما تكون في اتجاه الأرض أو في غير اتجاه جليسِه، برغبةٍ في التحفظ والكتمان والحذر، وهو الحذر نفسه الذي توحي به يداه المتشابكتان في معظم الأحيان، ولو سألنا أحد مُحلّلي لغة الجسد، سيكون الجواب أنَّ نوّاف سلام يُفضّل التأمُّلَ على الانفعال، والتحفّظ على التهوّر، ويكبتُ في نفسِه قلقًا دائمًا رغم هدوء كلامه. ولعلّه أكثر ميلاً إلى العقلانية من العاطفة.
الرجل الذي خَبِرَ الفكر الاستراتيجي والتعليم ودهاليزَ الدبلوماسيّة والقضاء العالميّ، لا يُطلق هذه التصريحات اعتباطيًّا أو من باب الانفعال، بل يُكمل نهجًا اقتنع به منذ سنواتٍ طويلة، وصاغ الكثير من أفكارِه في كتابه ” لبنان بين الأمس والغد” ، وينطلق فيه من مبدأ صاغَه عالِم اللسانيات الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي القائل:” :” تكمن الأزمة تحديدا في أنَّ القديم يحتضِر بينما الجديد لا يستطيع أنْ يُولَد بعد. وفي فترة الالتباس هذه بين العتمة والنور تظهرُ شتَّى أنواع الأمراض”.
من هذا المُنطلق تبنّى نوّاف سلام، انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وراح يدعو إلى دولة ” لا تقوم في وجه الطوائف، ولا تقوم كذلك على تسامح الطوائف تجاهها، بل دولة قادرة على احتواء الطوائف من ضمنها وعلى تجاوزها في الآن نفسه” .
هنا تكمن العقدة الكأداء، فالطائفة الشيعيّة في لُبنان، تشعر بأن نوّاف سلام ماضٍ في تهميشها لأنَّه يُسلِط السيفَ على عِمادِها الأساس حاليًّا أي السلاح. (مع العلم أنَّ لهذه الطائفة أعمدة أخرى مهمّة حيث تقدّمت على نحو كبير في مجالات العلوم والطبّ والهندسة والشهادات الجامعية، والاقتصاد والأعمال).
الواقع أنَّ نوّاف سلام، لم يُميّز بين طائفةٍ وأخرى حين كتب عن عُقم النظام الطائفيّ في لُبنان، واعتبر أنَّ ” الطوائف المُهيمنة” ( لاحظ أنّه قال طوائف وليس طائفة مُحدّدة) هي عِلّة النظام، وهي العِلّة التي عمّقت على مدى عقود خزعبلات الهندسات الدستوريّة، بحيث وجد في الدستور نفسِه تناقُضًا صارخًا مثلاً بين المادة 12 التي تنص على أنَّ :” لكلِّ لبنانيّ الحق في تولّي الوظائف العامّة، لا ميزة لأحد على الآخر الاّ من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينصّ عليها القانون ” وبين مواد أخرى وبينها المادتان 7 و 95
بهذا المعنى غَلَب الطابع الإصلاحي العام على فكر نوّاف سلام، لا بل ذهب الرجل أبعد من ذلك بكثير حين اقترح في كتابه المذكور وفي عدد من محاضراته استبدال التوزيع الطائفيّ الثابت والصارم للمناصب العليا الثلاثة، أي رئاسات الجمهورية ومجلس النواب والحكومة، مداورة بين الطوائف. (حبذا لو يتم اجراء مقابلة فكرية سياسية معه بدلا من مقابلات الفعل ورد الفعل ).
لم يكن نوّاف سلام مُعجبًا باتفاق الطائف، فهو يعتبر أنّه احتوى العنف الطائفي لكنّه عزّز الطائفية، وكان لتطبيقه المُشوّه تأثيرُه السلبيّ الكبير في وضع لبنان على طريق الدولة. وأمَّا في سياسة المحاور فإنَّ رئيسَ حكومة لُبنان كتب غيرَ مرّة عن ضرورة النأي بالنفس.
ما يقولوه نوّاف سلام إذًا اليوم ينسجم مع فكره الإصلاحي الذي يفترض حصرَ السلاح بيد الدولة، وإلغاءَ الطائفيّة على نحو مُتدرّج ووقفَ مسلسل الفساد، والشروعَ في إصلاحٍ حقيقيّ.
صودف أنّ هذه الأفكار أو بعضَها تطابق تمامًا مع ما تطلبه الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ودولٌ غربيّة وعربيّة أخرى من لُبنان، ولذلك فإنّ نوّاف سلام الذي رحّبت به السعودية حين وصل إلى منصبه هذا، رغم أنَّها لم تكن خلف وصوله، (بعكس ما كان حالها مع الرئيس جوزيف عون)، صار رقمًا عربيًّا ودوليًّا صعبًا، وبات في مواجهة حزب الله وجزءٍ كبير من الطائفة الشيعيّة وصولاً إلى إيران. ولم تكن زيارة أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى لُبنان الاّ لدعم الحزب والشيعية في مواجهة الحكومة.
من المُفترض أنَّ عُمرَ هذه الحكومة قصير، وأنّ انتخاباتٍ تشريعيّة ستفرض نفسَها بعد فترة قريبة. والمطلوب دوليًّا وعربيًّا تعديلُ طبيعة مجلس النوّاب، وإضعافُ حزب الله وحلفائه، وتعزيزُ مناخاتٍ أخرى تميل إلى الفكر الإصلاحي ويكون عمقها عربيًّا وغربيًّا وليس إيرانيًّا.
نوّاف سلام نجح نجاحًا بارزًا في الامتحان السعودي. وغالِبًا ما يسمع زائر الرياض كلامًا إيجابيًّا عاليًا عنه وعن الرئيس جوزيف عون وما حقّقاه في فترة وجيزة على طريق الإصلاح وعدم الخوف من رفع مستوى المواجهة مع حاملي السلاح في لُبنان وحصر هذا السلاح بيد الدولة.
نجح نوّاف سلام حيث فشل سابقوه من الرئيس سعد الحريري حتّى الرئيس نجيب ميقاتي في حصر السلاح بيد الدولة واعادة تشكيل الدولة على اسس جديدة تليق بدولة سيدة ومستقلة وصاحبة قرار الحرب والسلم، وفق المنطق السعودي. ولو أراد الرجل إذًا أن يسير في طريق زعامة سُنيّة، فهو سيلاقي حتمًا دعمًا كبيرًا.
لكن ثمة أسئلة لا بُدّ من طرحها وأخذها بعين الاعتبار:
- هل يستطيع نوّاف سلام أن يمضي بالمواجهة حتى النهاية؟ وهل سيجد إلى جانبه قوى داخليّة تصد هجمة الخصوم لو انزلق الوضع إلى ما لا تُحمد عقباه؟ وكيف سيوّفق بين سحب السلاح وردع عدوٍ ما زال كل يوم يتحدّى الدولة اللُبنانية وليس فقط الحزب؟ فكلُّ من دخل في مواجهة مع طائفة كُبرى في لُبنان هُزم وهُزمت الدولة وانقسم الجيش؟ هل لديه ما ليس لدى سابقيه؟ وما هي حدود علاقته الفعلية بالرئيس نبيه بري الذي لا شك ان اتصالاته ومساعيه غير المعلنة تختلف تماما عن كل ما يقال في العلن.
- ما هي حقيقة موقف إيران من كل ما يحصل، هل حمل لاريجاني فعلا دعمًا غير مسبوق لحزب الله، أم بالعكس تماما ان التفاهم مع السعودية والأمل باعادة التفاوض مع الولايات المتحدة لهما اهداف اخرى، خصوصا أننا مثلا لم نلحظ في الخطاب الهجومي الذي شنّه أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم على الحكومة ما عاد يذكر لا فيه ولا في غيره السعودية بالإسم.
- هل تسرّعت الحكومة فعلاً في فراراتها الأخيرة بشأن سلاح الحزب والورقة الأميركية خصوصا ان واشنطن لم تعط اي ضمانات للُبنان مقابل استراتيجية تسليم السلاح، أم أنّ هذا جزءٌ أصيل من استراتيجية بات لا فكاك منها محليًّا وعربيًّا ودوليًّا؟ وما هي استراتيجية لُبنان الفعلية امام الاساطير التوراتية لنتنياهو وبن غفير وسموتريتس التي تقضي بالتوسع ومفهوم القوة فقط وليس اي منطق تفاوضي؟
- هل يطمح نوّاف سلام فعلاً لزعامةٍ سُنيّةٍ وهو الذي رفع لواء الغاء الطائفيّة واعتبر ان علّة الوطن هي هذه الطائفية؟
- وإذا كان يطمح لزعامة أوسع، هل بدأ الإعداد لتحالفات انتخابيّة مختلفة عمّا شهده لُبنان سابقًا كي يدخل الى مجلس النوّاب بكتلة وازنة كما قد يفعل رئيس البلاد.
لا شكّ في أنَّ مغامرة نوّاف سلام مثيرة للانتباه، ولكنَّها مثيرة أيضًا لخطر كبير، فلا حزب الله والشيعة سيقبلون تهميشًا، ولا إسرائيل تُريد فعلاً قيام دولة لُبنانيّة قويّة وسيّدة ومستقلة وناهضة اقتصاديًّا، ولا إيران قابلة بأن تُطرد من لُبنان كما طُردت من سوريا ليكون البديل عنها دورٌ أميركيٌ سعوديٌ كبير…ولا أميركا والسعودية تجد فرصة أمام لُبنان أهم من الفرصة الحالية لسحب السلاح وبناء الدولة، من هنا بالضبط تتقاطع مصالح عديدة لتضع نوّاف سلام في دائرة الخطر، وربما الخطر الكبير.