غزة – منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، امتدت ألسنة النيران إلى جنوب لبنان، حاصدة أرواح المدنيين والعاملين في المجال الإنساني، ولم يكن الصحفيون بمنأى عنها. فالكاميرا، التي يفترض أن تكون عين الحقيقة، أصبحت في نظر الاحتلال هدفًا مشروعًا.
ووفق آخر إحصائية رسمية صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، بلغ عدد الصحفيين الذين قُتلوا في القطاع حتى 11 أغسطس 2025 238 صحفيًا، بينهم العشرات ممن قضوا في استهدافات مباشرة ومتعمدة أثناء ممارسة عملهم.
وفي جنوب لبنان، وثّقت منظمات دولية، بينها لجنة حماية الصحفيين (CPJ)، مقتل عدد من الصحفيين منذ بدء التصعيد، أبرزهم اللبناني عصام عبد الله الذي استُهدف في بلدة علما الشعب خلال تغطية ميدانية.
أنس الشريف… الصوت الذي أراد الاحتلال إسكاته
في مساء العاشر من أغسطس 2025، كان الصحفي أنس الشريف، مراسل قناة الجزيرة، يجلس في خيمة مخصصة للصحفيين قرب مستشفى الشفاء بمدينة غزة، إلى جانب زميله محمد قريقع وثلاثة صحفيين آخرين. كانوا يراجعون مواد مصورة وثقت الحياة تحت القصف، حين أطلقت طائرة مسيّرة إسرائيلية صاروخًا مباشرًا نحو الخيمة.
أسفر الهجوم عن استشهاد الصحفيين الخمسة على الفور، فيما قضى صحفي سادس في اليوم التالي متأثرًا بجراحه.

أنس، المولود في مخيم جباليا، كان معروفًا بابتسامته الهادئة وإصراره على نقل الحقيقة من قلب الخطر. في وصيته المؤثرة التي كتبها في 6 أبريل 2025، قال:”إن وصلتكم كلماتي هذه فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي… عشت الألم بكل تفاصيله، ولم أتوقف يومًا عن نقل الحقيقة كما هي، بلا تزوير أو تحريف.”
سياسة ممنهجة لاستهداف الإعلام
منذ بداية العدوان، وثّقت المؤسسات الحقوقية والإعلامية استهدافًا متعمدًا للصحفيين والمؤسسات الإعلامية. المكتب الإعلامي الحكومي بغزة أكد أن “عملية اغتيال الصحفيين قرب مستشفى الشفاء تمت مع سبق الإصرار والترصد”، واعتبرها “جريمة حرب مكتملة الأركان”.
وأشار البيان إلى أن الاستهداف لم يكن في موقع اشتباك أو خط مواجهة، بل في منطقة كان يفترض أن تكون آمنة للفرق الإعلامية، معتبرًا ذلك جزءًا من خطة الاحتلال لطمس الحقيقة والتغطية على الجرائم بحق المدنيين.
إحصاءات تكشف حجم الخسارة
238 صحفيًا استشهدوا في غزة منذ 7 أكتوبر 2023.
أكثر من 320 صحفيًا أُصيبوا بجروح متفاوتة، بينهم من فقدوا أطرافهم أو أصيبوا بإعاقات دائمة.
تدمير عشرات المقرات الإعلامية بشكل كامل، من بينها مكاتب قنوات دولية وعربية.
في جنوب لبنان، مقتل ما لا يقل عن 7 صحفيين خلال القصف الإسرائيلي، بينهم عصام عبد الله،و فرح عمر وربيع المعماري.
وتظهر الإحصاءات أن أكثر من 80% من الصحفيين الذين قُتلوا في غزة كانوا يرتدون شارات الصحافة وسترات واقية، في تحدٍ صارخ للقوانين الدولية التي تحمي الصحفيين في مناطق النزاع.
الحرب على الحقيقة… والأثر الإنساني
أنس الشريف لم يكن مجرد ناقل للأحداث، بل كان شاهدًا على واحدة من أبشع صفحات التاريخ الحديث. لسنوات، وثّق بكاميرته الحياة تحت الحصار والقصف، مؤمنًا بأن دور الصحفي يتجاوز الحياد أمام الجريمة، إلى أن يكون ضميرًا حيًا يوثقها.
مدن وقرى بأكملها تحولت إلى أنقاض، ومشاهد الأطفال تحت الركام والنساء المفجوعات كانت تتكرر في تقاريره. كان يعلم أن الكاميرا في نظر الاحتلال “سلاح خطير”، وأن حاملها هدف مشروع، لكنه ظل في الميدان حتى لحظة استشهاده.
مناشدة للمساءلة الدولية
الأمم المتحدة والاتحاد الدولي للصحفيين ومراسلون بلا حدود دعوا مرارًا إلى إحالة هذه الجرائم إلى المحكمة الجنائية الدولية، باعتبارها انتهاكًا صارخًا للمادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، التي تحمي الصحفيين في مناطق النزاع.
لكن حتى اليوم، لم يُقدَّم أي من المسؤولين الإسرائيليين للمساءلة، في ظل غياب الإرادة السياسية الدولية واستمرار الاحتلال في استخدام “ذريعة الأمن” لتبرير القتل.
ثمن الحقيقة
منذ بدء العدوان، قُتل أكثر من 61 ألف فلسطيني، وأصيب 152 ألفًا، بينما يعيش مئات الآلاف تحت الحصار والمجاعة. وفي قلب هذه المأساة، كان الصحفيون شهودًا على الجرائم، يدفعون حياتهم ثمنًا لإيصال الصورة والكلمة إلى العالم.
رحيل أنس الشريف وزملائه لا يمثل خسارة لزملائهم وعائلاتهم فقط، بل خسارة للضمير الإنساني العالمي، ورسالة جديدة بأن الصمت الدولي يفتح الطريق لمزيد من الدماء.
وكما كتب أنس في وصيته، فإن الحقيقة لن تموت باغتيال حامليها، بل ستظل أقوى من القذائف إذا وصلت إلى العيون والقلوب.
