عزّة جرجس
في قرية حرّانية، جنوب القاهرة، يعمل مركز فني على الحفاظ على فن النسيج اليدوي التقليدي. يتدرّب فيه رجال ونساء مصريون، ويطلقون العنان لإبداعهم من خلال نسج مشاهد من الحياة اليومية والريفية، بحسب ما يروي موقع “ذا نيو أراب”.
لم تكن نجلاء فاروق رضوان، الفنانة المطرّزة القادمة من الريف المصري، تتخيّل يوماً أن منسوجاتها وأعمالها في فن الباتيك [فن نسيج قديم] ستجوب العالم. فقد عُرضت أعمالها، المستوحاة من مشاهد قريتها، في برلمانات ومتاحف وأوبرا وصالات عرض وحتى في مقر الأمم المتحدة.
تتشابك الخيوط أمامها بانسجام، وتتوزع ألوانها الزاهية على مساحة النسيج. عمل جديد يتشكل، يمثل قريتها. مسألة الإبداع لا تطرح نفسها، فكل ما عليها هو ترك الخيال ينساب، خيطاً وراء خيط.
مهنة شغف
نشأت نجلاء في الحرّانية، قرب أهرامات الجيزة. في سن الحادية عشرة، بدأت ترافق والدتها، جاريا محمود، التي كانت تنسج يدوياً الباتيك والمنسوجات في “مركز فن رامسيس ويصا واصف”. لا تزال تتذكر شجرة كانت تتراءى على نول والدتها، نسخة مطابقة لتلك المزروعة قرب بيتهما.
هناك، حصلت نجلاء على نول صغير وبدأت تحرك الخيوط، في بداية مسيرتها الحرفية قبل واحد وأربعين عاماً. كانت تذهب إلى المركز فور أن تنهي دروسها، وتجلس ساعات أمام النول.
تقول وهي تشكل بإبرة النسيج أشواك صبار بخيط أخضر:“عليك أن تكون شغوفاً فعلاً لتقضي وقتك أمام النول”.
ومن دون أي رسومات أو مخططات، تنجز أعمالها من الذاكرة وتقول :“لا أستخدم الرسوم أو النماذج، لأنها تقيّد إبداعي. أخرج أتجوّل في الحديقة، أستلهم مما أراه، ثم أعود وأنسج المشهد بألوان متنوّعة”.
إطلاق العنان للإبداع
تأسس المركز عام 1952 على يد المعماري المصري رامسيس ويصا واصف (1911–1974) وزوجته صوفي، بهدف تمكين نساء الريف من التعبير عن إبداعهن بعيداً عن نسخ الزخارف التقليدية أو الخضوع لقيود المجتمع.
كما استفاد أطفال القرية، حيث شُجّعوا، في بيئة حرة وبأدوات بسيطة، على اختيار موضوعاتهم وألوانهم ومناظرهم بأنفسهم، بعيداً عن المناهج الفنية التقليدية.
كان رامسيس يسعى لإنقاذ الفنون التقليدية المصرية، وفي زمن هيمنت فيه المكننة، أراد أن يحمي النسيج اليدوي من الاندثار. وجاء في كتيّب المركز:“الإبداع يبدأ حين تلمع عينا الفنان فجأة، فيرى المشهد الذي سيتخيّله وينسجه بالفطرة”.
مشاهد الحياة اليومية
أثمرت هذه المقاربة مئات الأعمال التي جسدت الحياة في الريف: نساء يملأن الجرار، رجال في الحقول، حلقات سمر، نباتات وأزهار الربيع، بيوت الطين، أسراب الحمام…
تقول نجلاء:“حتى لو كانت ورقة شجرتي ليست في الاتجاه الصحيح، أتركها كما هي. أتعلم من أخطائي، وفي النهاية أرى العمل جميلاً بتلك العيوب. الألوان تجذبني بالفطرة، وأختار الخيط الذي أشعر أنه سيمنح العمل انسجامه مع الوقت”.
بعض أعمالها ولدت من تجارب شخصية. بعد وفاة والدتها، نسجت مشهداً لنهر وجزره الصغيرة، وكان النسيج وسيلتها لتجاوز الحزن: “كأن الزمن توقف… كنت أقضي ساعات أمام النول وأفقد الإحساس بالوقت”.
مستقبل على المحك
قربها، تواصل تحية إبراهيم (64 عاماً) العمل بالنسيج اليدوي. بدأت في مراهقتها، وتحب رسم النباتات والأزهار في أعمالها، وتصبغ الخيوط بنفسها بعناية فائقة لاختيار الألوان الملائمة.
تطورت أعمالها من قطع صغيرة إلى منسوجات ضخمة معقّدة، تحكي بدورها مشاهد القرية ومحيطها.
اليوم، لا يزال نحو عشرين فناناً فقط ينسجون في المركز، بينهم عشر نساء ورجلان. معظم شباب القرية الذين تعلموا النسيج اتجهوا لمهن أخرى. ومع ذلك، استمر الفنانون في إنتاج مئات الأعمال التي تؤرخ لحياة الريف.
لكن المركز مهدد. يقول منسّقه ألفونس غطاس إن من الصعب نشر التجربة في قرى أخرى، لأن الحفاظ على هذا الفن يتطلب التزاماً كبيراً، فضلاً عن أن وسائل التواصل الاجتماعي تستهلك وقت الشباب وتصرفهم عن الحرف التقليدية.
حفظ فن مهدد
اليوم، تدير المركز ابنتا رامسيس، يوانا وسوزان، اللتان تقتربان من السبعين. ويقول غطاس إن هناك مشاريع لتحويله إلى متحف، لكن ذلك يحتاج جهداً ووقتاً كبيرين.
كما تغيّر محيط المركز: فقدت المنطقة طابعها الريفي بفعل قربها من الأهرامات، وتحوّل المشهد الأخضر إلى عمران. رغم ذلك، يواصل المركز الحفاظ على تراث القرية، وزرع نباتات الصباغة مثل الفوة والوسمة والنيلة لصناعة الألوان الثابتة، على غرار ما كان يُستخدم في المنسوجات القبطية التي حافظت على ألوانها عبر القرون.
ورغم المستقبل الغامض، لا تزال نجلاء وبقية الحرفيين يبدعون خلف أنوالهم، خيطاً وراء خيط.