د.محمد فايد
في خطوة تمثل تحوّلًا نوعيًا في توجهاتها الاقتصادية، بدأت الجزائر تجني ثمار انخراطها النشط في التبادل التجاري مع دول القارة الأفريقية، حيث سجّلت نمواً ملحوظًا في تجارتها البينية مع هذه الدول، تجاوز 4.6 مليارات دولار خلال عام 2024، بنمو يزيد عن 18% مقارنة بالعام السابق.
هذا التطور يعكس استراتيجية الجزائر الجديدة القائمة على تنويع شركائها الاقتصاديين والانفتاح على محيطها الإقليمي، خاصة بعد انضمامها إلى منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية ومصادقتها رسميًا في عام 2021 على الاتفاق المتعلق بإنشائها. وبموجب هذه الخطوة، أصبحت الجزائر طرفًا فاعلًا في أكبر تكتل تجاري على مستوى القارة، يضم أكثر من 1.3 مليار نسمة، وناتجًا محليًا إجماليًا يتجاوز 3.4 تريليونات دولار.
تحول من الاستيراد إلى التصدير
تشير البيانات الأخيرة إلى أن الجزائر صدّرت ما يقارب 2.7 مليار دولار من السلع إلى دول أفريقية، بينما استوردت ما قيمته 1.87 مليار دولار فقط. ورغم أنها لا تزال توصف بسوق استهلاكية، إلا أن التوجه المتسارع لرفع نسبة الصادرات خارج قطاع المحروقات يشير إلى نية فعلية لتحويل الجزائر إلى قطب إنتاجي أفريقي، فقد ارتفعت صادرات البلاد خارج قطاع النفط والغاز إلى نحو 7 مليارات دولار، وسط طموحات حكومية لبلوغ سقف 30 مليار دولار بحلول عام 2030، مستفيدة من التسهيلات التي تقدمها اتفاقية التجارة الحرة، التي خفضت الرسوم الجمركية بنسبة تصل إلى 90% بين الدول الأعضاء، وسهّلت حركة البضائع والخدمات.
مكاسب عضوية متعددة الأبعاد
عضوية الجزائر في منطقة التجارة الحرة القارية لم تكن رمزية، بل سمحت لها بإعادة هيكلة علاقاتها الاقتصادية، وتعزيز مكانتها كلاعب إقليمي. كما أن انضمام الجزائر إلى منظمات اقتصادية أفريقية أخرى – مثل الاتحاد الجمركي، والمصرف الإفريقي للاستيراد والتصدير (Afreximbank) – أتاح لها فرص تمويل مشروعات التصدير، وتوسيع حضورها في سلاسل القيمة القارية. هذه المشاركة النشطة في المنظومة الاقتصادية الإفريقية فتحت الأبواب أمام فرص متعددة: من شراكات صناعية واستثمارية، إلى مشاريع مشتركة في مجالات الزراعة، والنقل، والخدمات اللوجستية.
تجارة المقايضة والنفاذ الحدودي
أحد أبرز المظاهر العملية لهذه الاستفادة كان في تنشيط تجارة المقايضة مع الدول المجاورة في الساحل، حيث تستخدم الجزائر هذه الآلية لمدّ نفوذها التجاري إلى مناطق يصعب الوصول إليها بالطرق التقليدية. هذا التوسع الحدودي ساهم في تصريف فائض الإنتاج الوطني، وتوطيد الروابط الاجتماعية والاقتصادية مع المجتمعات الحدودية.
دفع نحو التنويع والاستثمار
من أبرز مظاهر الاستفادة أيضًا، التحول الهيكلي الذي يفرض نفسه على الاقتصاد الجزائري؛ فدخول السوق الإفريقية يحفز الصناعات الوطنية على التوسع والتكيف مع معايير الأسواق الجديدة، كما يشجع الابتكار وربط مراكز البحث العلمي بالقطاع الخاص. كما أن البنية المالية المصاحبة لهذا التوجه – خاصة مع افتتاح فروع للبنوك الجزائرية في نواكشوط وداكار وأبوجا – يعكس إرادة فعلية لبناء جسور تمويل آمنة ومستدامة داخل القارة.
آفاق واعدة وتحديات قائمة
رغم كل ما تحقق، لا تزال الجزائر تواجه تحديات تتعلق بقدرة قطاعاتها الإنتاجية على تلبية الطلب، وتحقيق التنافسية مع دول أفريقية أخرى تشهد نموًا اقتصاديًا متسارعًا. كما أن تفاوت الأوضاع الأمنية والبنية التحتية بين دول القارة قد يُبطئ من وتيرة النفاذ التجاري المنتظم.
لكن الأرقام الكلية للاقتصاد الجزائري (نمو يتجاوز 4%، واحتياطي نقدي يزيد عن 70 مليار دولار، وتضخم عند مستويات معتدلة) تمنحه هامش مناورة أوسع لتعزيز مكانته القارية، خصوصًا أنه ثالث أكبر اقتصاد أفريقي حاليًا، وفق آخر التصنيفات.
واخيرا فقد مثّلت التجارة مع القارة الأفريقية نافذة استراتيجية للجزائر نحو تنويع اقتصادها، وتقليص تبعيتها لمداخيل النفط والغاز. وبينما تُراهن على رفع صادراتها إلى 10 مليارات دولار نحو القارة في المدى المتوسط، تبقى منطقة التجارة الحرة الأفريقية فرصة تاريخية أمام الجزائر لإعادة تموقعها الاقتصادي داخل عمقها الجغرافي الطبيعي، إفريقيا.
