سامي كليب:

للُبنان في قلب كلّ مصري مكانُ الحب، ولمصر في قلب كلِّ لُبناني مكانٌ مماثل رغم كلِّ تقلّبات السياسة والمصالح عبر التاريخ الحديث. يكفي أنْ تعيشَ لفترة في القاهرة، حتّى تشعُر بدفء الأخوّة، وحرص الشقيق الكبير، واستعدادٍ واضح للوقوف إلى جانب لُبنان في كلِّ كبواته وآلامه وآماله.
واليوم مع وصول رئيس مجلس الوزراء المصري د. مصطفى مدبولي ذي الباع الطويل في الهندسة والتخطيط والعُمران (دكتوراه بالهندسة المعماريّة)، والتجربة المكثّفة بالعمل السياسيّ والاقتصاديّ، واللغة الدبلوماسية الدمثة والهادئة، مصحوبًا بوفدٍ رفيع مؤلف خصوصًا من نائب رئيس الوزراء للتنمية الصناعية، ووزير الصناع والنقل، ووزير الكهرباء والطاقة المتجدّدة، ووزير البترول والثروة المعدنيّة، سيشعُر كلُّ لُبناني بصدقِ الاستعداد المصريّ لمواكبة لُبنان في هذه المرحلة الدقيقة التي تحتاج إلى دعمٍ مصريّ سياسيّ، ولكن أيضًا اقتصادي وصناعي، ونفطي وكهربائي وغيره.
تعليمات الرئيس عبد الفتّاح السيسي لحكومته منذ فترة غير قصيرة، هي الوقوف إلى جانب لُبنان لتجنّب الحرب، وتعزيز الحوار الداخلي، ومواكبة العهد الجديد بالنهوض الاقتصادي، وبسط سلطة الدولة اللُبنانية على كامل أراضيها.
ولعلّ الفارق الجوهري بين سياسة مصر والكثير غيرها في الملف اللُبنانيّ، أنَّ القاهرة لا تُشجّع على صدام داخليّ في سياق حصر السلاح بيد الدولة اللُبنانيّة، بل تُريد ذلك من خلال الحوار والتفاهم، وإقناع اللُبنانيّين جميعًا بأنَّ لا قيامة للُبنان بلا دولة قادرة وعادلة، وبلا نهضة المؤسسات وفي مقدمها الجيش وقوى الأمن، وإنعاش الاقتصاد.
زيارة المهندس مدبولي تأتي في هذا السياق، ولا تحمل تحذيرات وإنذارات بلا نصائح أخوية صادقة، وذلك من منطلق المعرفة العميقة لمصر بنوايا إسرائيل ومشاريعها، ولكن أيضا بمكافحة الإرهاب والفتن. وقد عملت القاهرة وما زالت، مرّة بالعلن، ومرّات بعيدًا عن الأضواء، لحماية لُبنان من أطماع، ومخالب العدو ،ومنع الفتن والإرهاب.
صحيح أنَّ القاهرة كانت السبّاقة في عقد اتفاق سلام مع إسرائيل منذ العام 1978، لكنّ الصحيح أيضًا أنَّ مصرَ التي استعادت بهذا الاتفاق أرضها المُحتلّة بعد نصرها في حرب 1973، عرفت طيلة العقود الطويلة الماضية كيف تطوّع هذا التطبيع لصالحها، بحيث أنَّ لا الجيش غيّر فعليًّا عقيدته، ولا الشعب انساق صوب الانفتاح الأعمى على من يُمارس الإبادة، بل بقيت مصرُ عصيّة على الاختراق المجتمعي، مدافعة عن فلسطين والقضايا العربيّة المُحقّة، ولو خرق أي مثقّف أو فنان أو مفكّر أو نائب هذا العُرف الوطني الأصيل وتجاوب مع دعوة إسرائيلية ولو لمجرد مقابلة على وسيلة إعلامية أو اتصالٍ مباشر، يُطرد من نقابته أو يعيش في ما يُشبه الخيانة.
وحين شطح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إشاراته إلى تهجير أهل غزّة والضفة الغربيّة إلى مصر والأردن، وحين تباهى سيّد الإبادة نتنياهو بتهجير الغزّاويين إلى سيناء، رفع الرئيس السيسي والدبلوماسيّة المصريّة سقف التحذير إلى مرحلة التهديد قائلين إنَّ هذا الأمر خطٌٌّ أحمر، ورُفعت حالة التأهب العسكري عند الحدود استعدادًا لمواجهة أي احتمال حتّى ولو أدّى الى الحرب، وطوقّت مصر نفسها بدبلوماسية نشيطة أدت إلى عقد مجموعة من القمم واللقاءات، وإلى إقامة تحالف عربي إسلامي أوروبي دفع ترامب للتراجع، كما دفع نتنياهو للتكفير مليون مرّة قبل أن يُقدم على عملٍ يُخلّ بالاتفاقات الأمنية مع القاهرة. وها هي إسرائيل تُضطر لتوقيع اتفاقية الغاز مع مصر بمستوياتها الاقتصاديّة والاستثماريّة، دون أن تحصل على أي ثمن سياسيّ أو امني.
هذا بالضبط ما يحتاجه لُبنان، فالتفاوض ليس عيبًا، ولكنّه يحتاج الى موقف حازم ولغة قويّة وأوراق رابحة، وبهذا المعنى يُمكن للعمق العربي بقيادة مصر والسعوديّة وغيرهما تشكيل سندٍ تفاوضي قويّ إلى جانب لُبنان، وسحب البساط من تحت أقدام نتنياهو، وتجنيب لُبنان أيّ حربٍ مُقبلة. ولعلّ هذه هي النصائح المصريّة التي حملها رئيس الاستخبارات المصرية اللواء حسن رشاد قبل فترة الى لُبنان وكذلك وزير الخارجية المصري.
وفي شرحه للموقف المصري حيال لُبنان قال وزير الخارجية د. بدر عبد العاطي في حديثه للشرق الأوسط اليوم : ” نبذل جهودًا مكثّفة، وكثيرة للغاية على كلّ المستويات مع كلّ الأطراف الدوليّة والاقليميّة المعنيّة، وأجريت اتصالات مكثّفة مع إسرائيل وإيران والولايات المتحدة لتجنيب لُبنان ويلات أيّ تدخّلات أو أيّ عمليات عسكريّة تمس بمقدّرات الشعب، ونحن نثمّن كل الخطوات التي اتخذها الجيش اللُبناني وكلّ الإنجازات التي تحقّقت في منطقة جنوب الليطاني فيما يتعلّق بفرض سيادة الدولة وسيطرتها، كما نثمّن تأكيد الحكومة اللبنانيّة التزامها باتفاق وقف الأعمال العدائية الموقّع في العام الماضي وتنفيذه في كلّ ربوع لُبنان وليس فقط في منطقة جنوب الليطاني، ومصر لا تدّخر وسعًا لدعم لبنان وشعبه وقيادته”.
هذا الكلام يحمل ثلاثة رسائل، أولها أنَّ لُبنان فعلاً كان مُهدّدًا ولذلك سارعت الدبلوماسية المصريّة لدرء الحرب، وثانيًّا دعمٌ مصريٌّ وضاح للجيش والدولة في مواجهة من يشكّكون بدورهِما، وثالثًا أن بسط سيادة الدولة يجب أن يكون على كل الأراضي اللُبنانية وليس الجنوب فحسب.
باختصار مصرُ تدعم نهوض الدولة وخروج المحتل وانتعاش الاقتصاد وحصر السلاح بيد الدولة وتعزيز الحوار الداخليّ… فمرحبًا بها وبكل من يُمثّلُها. ولن يكون للُبنان مستقبل بلا هذا العمق العربي من بوابته الأكبر والأكثر فعالية في مجال الوساطات والتأثير على القريب، والبعيد والصديق والعدو.
