بعد عام على نهاية الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، لا زال المشهد اللبناني متشابكاً ومعقداً على نحو غير مسبوق، فوسط ازمات سياسية وامنية واقتصادية متراكمة، وتداعيات الحرب بين المقاومة والعدو الإسرائيلي وما يرافقها من تهديد دائم بإعادة توسيعها وانفجار الوضع مجدداً، في ظل هذا الواقع يبرز سؤال محوري في النقاش السياسي: من هو الراعي الاقليمي القادر على رسم خارطة طريق للاستقرار في لبنان والمنطقة؟ وهل يمكن لهذا الراعي ان يضع اسس حل شامل مع اسرائيل ينهي فيها حالة الحرب والتهديد؟ او يضمن على الاقل هدنة طويلة الأمد وربما اتفاقية من نوع جديد؟
بالحقيقة هذه الفكرة ليست جديدة على تاريخ لبنان، فالبلد لم يعرف يوماً تسوية سياسية او امنية مستقرة الا برعاية خارجية، سواء كانت عربية او دولية، لكن الاختلاف اليوم يكمن في تغير التوازنات الإقليمية بعد الانكفاء الإيراني المرتبط بتغيير التوازنات الدولية مع الانكفاء الأميركي في أوكرانيا والبحر الكاريبي والصعود الصيني المتزايد مع تراجع القدرة الامريكية على فرض حلول أحادية في هكذا ظروف دولية.
فعودة اللاعبين الاقليميين بقوة الى قلب المسرح كالسعودية ومصر وتركيا وايران وسوريا وقطر وغيرها ومع الحرب المتقطعة في غزة والاستهدافات المستمرة في لبنان من قبل اسرائيل، يجعل الأنظار تتجه نحو جهة اقليمية قادرة على لعب دور مركزي في وقف الحرب، ثم قيادة مسار سياسي يحسم مستقبل العلاقة بين الدولة اللبنانية والمقاومة والعدو الاسرائيلي.
من هنا تنطلق فرضية ان الوضع البناني ينتظر الراعي الإقليمي، قد يكون هذا الراعي احادياً مثل السعودية او مصر، وربما يكون ثنائياً مثل شراكة سعودية مصرية، وقد يكون اوسع في اطار شراكة متعددة الاطراف تضم تركيا او دولاً أخرى، وفي كل الحالات يظل السؤال قائماً حول طبيعة هذا الدور، ومقوماته، والمعوقات التي تمنع ولادته حتى الآن.
ان فكرة الراعي الإقليمي تعني وجود دولة او مجموعة دول قادرة على ممارسة نفوذ سياسي واقتصادي ودبلوماسي مباشر على القوى اللبنانية من جهة، وعلى المجتمع الدولي واسرائيل من جهة اخرى، بحيث تتمكن من طرح مبادرة قابلة للحياة تحدد شروط التهدئة، وتضع التزامات امنية، وتؤسس لمسار تفاوضي اكبر حول الحدود والوجود العسكري ومستقبل الجنوب، ولا يمكن تحقيق مثل هذا الدور دون امتلاك ثلاث ركائزاساسية: القدرة، والقبول المحلي، والاعتراف الدولي.
فلبنان اليوم يحتاج هذا النوع من الرعاية اكثر من اي وقت مضى، لان الازمة اللبنانية ليست محصورة في الداخل، بل هي جزءٌ من نزاع اقليمي اكبر مرتبط بالحرب في غزة والعلاقة الإيرانية الامريكية ومستقبل سوريا، وموجة الاتفاقيات الابراهيمية التي تجمدت بفعل الحرب، بما ان لبنان لا يملك القدرة الذاتية على فرض حل ولا اسرائيل قادرة على الحسم العسكري وحدها،يبقى الحل في يد طرف ثالث يمتلك الارادة والادوات.
يطرح بعض المراقبين احتمال ان تتولى دولة واحدة دور الراعي الخياران الاكثر تداولاً في هذا السياق هما مصر والسعودية.
مصر صاحبة الرعاية في اتفاقية السلام في غزة تمتلك خبرة تاريخية في ادارة الملفات العربية، وهي اليوم اللاعب العربي الاكثر انخراطاً في الملف الفلسطيني، اضافة الى علاقات امنية وسياسية مع الامريكيين والإسرائيليين، كما انها تحتفظ بعلاقة مفتوحة مع كل القوى اللبنانية، من بينها حزب الله عبر قنوات غير مباشرة، ما يمنحها قدرة على جمع الأطراف، لكن قدرة مصر على تحمل عبء سياسي كبير في لبنان قد تكون محدودة عملياً بسبب الاولويات الداخلية والضغط الاقتصادي الهائل على الشعب المصري.
أما السعودية، فهي صاحبة نفوذ مباشر على شريحة واسعة من القوى اللبنانية، ولا سيما الطيف السني، كما انها تمثل ثقلاً مالياً واقتصادياً لا يمكن تجاوزه في مرحلة اعادة الاعمار، وقد سبق للرياض ان لعبت ادواراً مشابهة في محطات تاريخية سيما في اتفاق الطائف، لكن السعودية اليوم حذرة من الدخول في مشاريع غير مضمونة مع إسرائيل، ولا تريد ان تتحمل مسؤولية تسوية قبل ضمان شروط امنية وسياسية واضحة سواء من إسرائيل او من حزب الله، ذلك تبدو المملكة اكثر ميلاً لمقاربات جماعية اكثر من الانفرادية.
لذلك يرى فريق واسع من الباحثين ان الراعي الاحادي غير كاف، وان اي تسوية في لبنان تحتاج على الاقل الى مظلة مشتركة سعودية مصرية، فالسعودية تمتلك نفوذاً مالياً وسياسياً في لبنان، بينما تمتلك مصر ثقل الوساطة الاقليمية مع اسرائيل والقوى الدولية، الجمع بين الدولتين يخلق توازناً، ويعزز قدرة المبادرة على الصمود، ويمنحها شرعية عربية اوسع.
هذه الصيغة تملك نقاط قوة مهمة منها التنسيق التاريخي بين البلدين، وغياب اي تناقض جوهري بين مصالحهما تجاه لبنان. لكن المشكلة تكمن في ان نجاح مثل هذه الشراكة يحتاج الى توافق مع الولايات المتحدة، والى تفاهمات مع ايران، ما يعني ان القرار النهائي مرتبط بعوامل خارج ارادة البلدين.
وهناك من يتوقع ان التسوية لن تكون ممكنة الا عبر صيغة اوسع متعددة الأطراف تضم على الاقل سعودية مصرية تركية، مع دعم قطري وربما غطاء سوري غير مباشر، هذه الصيغة تستند الى فكرة ان لبنان اليوم ليس ملفاً منفصلاً، بل حلقة ضمن شبكة نزاعات تمتد من غزة الى سوريا الى العراق وحتى البحر الأحمر، لذلك فان حل لبنان يحتاج الى منصة اقليمية متعددة الاطراف تتيح توازناً يمنع الاحتكار في صناعة الحل.
تركيا مثلاً تملك نفوذاً متنامياً في المنطقة مع علاقة قوية مع قطر وحماس، وقد تتوسع علاقتها مع السعودية في ظل سياسات انفتاح تدريجي، كما ان مشاركة تركيا قد تمنح المبادرة قوة تفاوضية اكبر مع اسرائيل بحكم العلاقات المباشرة، ومع ذلك تواجه هذه الفكرة تحديات كبيرة، اهمها تضارب الاجندات بين هذه الدول، واختلاف رؤيتها لمستقبل المنطقة ودور ايران.
كل ذلك ليس مرهوناً فقط بالدول الفاعلة اقليمياً، فهناك مجموعة من العوامل الرئيسية التي تحدد هوية الراعي الاقليمي وشكله، فالميدان العسكري في الجنوب والقدرات العسكرية الحقيقية للمقاومة لهي الرقم الأول في الفواعل المؤثرة بالقرار الإقليمي فاذا اتجهت الحرب نحو تصعيد واسع فالراعي المحتمل سيكون هو من يمتلك القدرة على وقف الحرب عبر تفاهمات مباشرة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، واذا ذهب المشهد نحو تهدئة محدودة او هشاشة عسكرية فقد تتسع دائرة الخيارات، كذلك شكل العلاقة بين السعودية وايران، ان ملف قدرات حزب الله هو المفتاح الأهم لان الحزب هو الفاعل الاساسي في المعادلة اللبنانية وعليه لا يمكن تجاوز ايران في اي تسوية تتعلق بدوره وحدود المواجهة المستقبلية.
كل ذلك رهن الموقف الدولي للولايات المتحدة الأميركية، فواشنطن هي الطرف الاكثر تأثيراً على اسرائيل، وبالتالي اي تسوية لا تخرج الا من الإدارة الامريكية، من هنا نعلم ان دور الراعي الاقليمي مرتبطاً بالرؤية الأمريكية للمنطقة المرتبطة بحروب اميركا في العالم سيما حروب المضائق والاقتصاد والمصالح.
لذلك ان المعوقات التي تؤخر بروز الراعي الإقليمي حتى اليوم لا تزال غامضة لغياب التوافق الدولي، فامريكا لم تحسم رؤيتها للحل النهائي بين لبنان وإسرائيل لانها لم تركز الأولويات الدولية عند ادارتها الخارجية في ظل تكاثر الملفات، فهي تركز الآن على منع حرب واسعة فقط دون صياغة مبادرة شاملة.
مصر والسعودية ايضاً ليستا جاهزتين، فهما لا يريدان الدخول في مشروع غير مضمون النتائج وسط استمرارالغموض الميداني في غزة وجنوب لبنان مع استمرار النكث الإسرائيلي، وربما التنافس الاقليمي الواسع تركيا وقطر وايران والسعودية ومصر يعرب عن عدم اتفاق مع اميركا على رؤية موحدة للمنطقة، وبالتالي يصعب بناء منصة مشتركة قبل حل الخلافات الاوسع وترتيب المصالح والأولويات لكل دول سيما في سوريا و الشركات العربية للإعمار والاستثمار.
لبنان اليوم يقف امام مفترق طرق خطير، فمن جهة لا يستطيع ان يتحمل حرباً طويلة تستنزف الاقتصاد والدولة والمجتمع، ومن جهة اخرى لا يمتلك قدرة داخلية على فرض حل، ولا القدرة العسكرية على ردع اسرائيل بشكل حاسم، ولا القدرة السياسية على فتح مفاوضات مباشرة، بالتالي يصبح الراعي الاقليمي حاجة ملحة لا يمكن تجاوزها.
لكن ملامح هذا الراعي لا تزال في طور التشكل، فهي مرتبطة بنتائج نهاية الحرب في غزة مع مصير الحكم هناك، وبالمعادلة بين ايران وامريكا والسعودية، وبقدرة مصر على الحفاظ على دورها، وبشكل النظام الاقليمي الجديد الذي سيولد من تحت ركام هده الحرب.
فلبنان ينتظر لحظة انضاج كبرى، لحظة يلتقي فيها ميزان القوة مع قرار سياسي دولي واقليمي واحد: وقف الحرب، تثبيت الحدود، إعادة الاعمار، تحرير الاسرى، اعادة بناء اقتصاد الدولة، وفتح نافذة امل لهدنة مستدامة، وحتى ذلك الحين سيبقى البحث جارياً عن الراعي الاقليمي الذي يستطيع ان يكتب المعادلة، ويقدم الضمانات، ويطلق مرحلة استقرار غائبة منذ سنوات.
