أثارت «استراتيجية الأمن القومى الأمريكى»، التى أصدرتها ليلة الجمعة (5 ديسمبر الحالى) إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، ما يشبه «الهلع» عند كثير من الكتاب والأكاديميين والمفكرين الأمريكيين، والمؤكد أنها أثارت أكثر من ذلك عند حكومات وشعوب الحلفاء الأوروبيين، الذين ازدرتهم هذه الاستراتيجية، وعند حكومات وشعوب دول أمريكا اللاتينية، الذين أضحوا أول المستهدفين بالغزو والعدوان والنهب «العصرى» الأمريكى، فى ظل هذه الاستراتيجية «الفجة».
من ألطف التعليقات التى صدرت بحق هذه الاستراتيجية، ما كتبه الكاتب الأمريكى فى صحيفة «نيويورك تايمز» توماس فريدمان، الذى هالته محتوياتها، أو بالأحرى «انحرافاتها»، فقد شبه حال الولايات المتحدة المتوقع فى ظل الأخذ بهذه الاستراتيجية بـ «الفيل الطائر» (..). تصوروا كيف يكون حال الفيل وهو يطير فى الهواء!!.. المؤكد أنه سوف يسقط حتمًا على رأسه وتتهشم أضلاعه. وفى رأيى أنها تكشف عن حقيقة عميقة هى أن هذه الإدارة تستعد لخوض الحرب الأهلية الأمريكية الثالثة، وزاد على ذلك: «نحن فى حرب أهلية جديدة على ما كان يسمى الوطن»، بسبب أولوية خوض الحرب على الهجرة والمهاجرين داخل الولايات المتحدة فى هذه الاستراتيجية. هذه الاستراتيجية لا تحمل بذور فتنة و«حرب أهلية داخلية» فى الولايات المتحدة فقط، ولكنها تحول الولايات المتحدة إلى «دولة امبريالية» جديدة فى القرن الحادى والعشرين، أهم أولوياتها هو «نهب ثروات الأمم الأخرى»، وعلى الأخص ما يمكن اعتباره بـ «مأزق العجز» من المعادن النادرة، التى يتأكد يومًا بعد يوم، أنه بدونها لن تكون ثورة صناعية رابعة، ولا صناعات متقدمة، ولا أسلحة ذكية، ولا طاقة نظيفة، هذا النهب يركز على أمريكا اللاتينية، ولعل هذا ما يشكل «خلفية فجة» لتدابير الغزو الأمريكى المحتمل لفنزويلا، الذى يستهدف أمرين: أولهما، القضاء على النفوذ والمصالح الصينية والروسية المتطورة فى هذه الدولة. وثانيهما، نهب ثرواتها من النفط والغاز والمعادن النادرة، كنموذج لما يدبر مع باقى دول القارة اللاتينية، ومن أهم أولوياتها أيضًا نهب الثروات المالية، والتوسع فى الاستثمار العقارى، وعلى الأخص فى عالمنا العربى الذى يشهد اندفاعة أمريكية بهذا الخصوص فى فلسطين «ريفييرا غزة»، وفى جنوب لبنان (تحويل المنطقة الحدودية فى جنوب لبنان مع فلسطين المحتلة إلى عقار صناعى سياحى)، مرورًا بإعادة التعمير العقارى الهائل فى سوريا، لصالح الشركات الأمريكية (نحو 300 مليار دولار)، وفى السودان (بعد استكمال تمزيقه).
هذه الاستراتيجية الجديدة للأمن القومى الأمريكى، تضمنت ما هو أهم وبالتحديد بالنسبة للعلاقة المستقبلية مع الصين، فقد أكدت أنه «لا خوض لمواجهة مع الصين بالمفهوم الاستراتيجى»، وأن الأولوية الاستراتيجية الآن أضحت فرض السيطرة الأمريكية على قارة أمريكا اللاتينية والتعامل معها باعتبارها «حكرًا أمريكيًا» وفقًا لـ «مبدأ مونرو»، الذى أخذ فى هذه الاستراتيجية اسمًا جديدًا هو «مبدأ ترامب»، أما الصراع مع الصين سيتحول إلى «صراع اقتصادى على الموارد»، وأن الولايات المتحدة ستعمل فى المستقبل من أجل «استعادة توازن العلاقة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، مع إعطاء الأولوية للمعاملة المتبادلة، والعدالة لاستعادة الاستقلال الاقتصادى الأمريكى» وشددت على أن التجارة مع الصين «يجب أن تكون متوازنة وتركز على العوامل غير الحساسة». هنا تعترف هذه الاستراتيجية بأن الولايات المتحدة، فى علاقاتها مع الصين، أضحت تفتقد استقلالها الاقتصادى، وهذه سابقة خطيرة، كما نلحظ حرصًا فى هذه الاستراتيجية على تجنب التركيز، فى العلاقة مع الصين على «العوامل غير الحساسة»، والمقصود هنا هو «المعادن النادرة»، التى باتت بمثابة «كعب أخيل» الأمريكى، أى نقطة الضعف المميتة فى العلاقة الأمريكية مع الصين، حيث أضحت الولايات المتحدة شديدة الاحتياج إلى «المعادن النادرة»، التى هى عصب الصناعة الحديثة والثورة الصناعية الرابعة، التى بدونها سوف يتأكد «أفول العصر الأمريكى».
هذا الاحتياح الأمريكى الشديد لهذه المعادن، وهذا الافتقاد الأمريكى الشديد لها، هو التفسير الأهم للتحول المحورى فى استراتيجية الأمن الأمريكية الجديدة، التى أضحت اعترافًا بالانهزام بل والسقوط أمام الصين، ومن هنا جاء إخراج روسيأ أيضًا من قائمة الأعداء، والتخلى عن أوروبا، والهروب إلى أمريكا اللاتينية وإفريقيا، بحثًا عن الثروات، وفى مقدمتها تلك «المعادن النادرة»، والنفط والغاز، واحتكارها، سواء للاستيراد منها أوالتصدير إليها معًا، بعد أن تحول المشهد الجيو- ستراتيجى العالمى إلى سباق محموم للسيطرة على تلك المعادن والمواد الخام الحرجة، التى لا يزيد عددها على 17 عنصرًا، والتى لم تعد مجرد سلعة تجارية، بل ارتقت إلى مستوى “الأصول الاستراتيجية الحرجة” التى تحدد موازين القوى فى القرن الحادى والعشرين، والتى أضحت الصين هى صاحبة الحصة الكبرى منها، حيث لا تسيطر الصين على الغالبية العظمى من إنتاج هذه المعادن فحسب، بل، والأهم من ذلك أنها تسيطر على ما يقارب 85% إلى 95% من عمليات المعالجة والتكرير، وهى الخطوة الأصعب التى تحول المواد الخام إلى منتجات جاهزة للاستخدام التكنولوجى، وتشكل «عنق الزجاجة» فى سلسلة الإمداد العالمية لهذه المعادن النادرة، وهذا ما جعل الولايات المتحدة تدرك أن الاحتكار الصينى لهذه المعادن ليس مجرد «ميزة تجارية»، بل هو «سلاح استراتيجى»، يمكن استخدامه لفرض ضغوط جيو – سياسية واقتصادية على الدول الحريصة على الحصول على هذه المعادن، وفى مقدمتها بالطبع الولايات المتحدة. معادلة شديدة الاختلال فرضت نفسها على العلاقات الأمريكية الصينية، وهى السبب الحقيقى للتراجعات الأمريكية عن المواجهة الإستراتيجية مع الصين وروسيا، والانكفاء على الذات فى الداخل الأمريكى، والتركيز على نهب ثروات الأمم الأخرى الأضعف فى أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا.
الإمبراطورية تسقط إذن، وشعار ترامب لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى أضحى شعارًا أجوف. هذه هى الرسالة الحقيقية للاستراتيجية الأمنية الأمريكية الجديدة.
المصدر الاهرام
د. محمد السعيد إدريس
