رغم التصعيد الإسرائيلي المستمر على الحدود الجنوبية وما يرافقه من تحركات سياسية وعسكرية، يبقى السؤال المركزي : هل نحن فعلاً على شفير حرب شاملة؟
قراءة دقيقة للمشهد تشير إلى أن إسرائيل، بالرغم من تهديداتها العسكرية، تتصرف بعقل “أميريكي” بدل الانزلاق نحو مواجهة مباشرة مع حزب الله.
فالبيئة الإقليمية تعكس بوضوح أن القوى الكبرى تعمل على إعادة تموضع نفوذها، وأن أي خطوة محلية مرتبطة بالحسابات الدولية الأكبر. لبنان اليوم يواجه وضعًا يشبه كثيرًا ما شهدته الدول خلال الحرب الباردة، حين كانت الحدود السياسية تُرسم وفق مصالح القوى الكبرى، وليس وفق إرادة الدول نفسها. في تلك الفترة، كانت الخيارات المحلية محدودة، والضغط الخارجي هو من يحدد سياسات وأمن الدول الصغيرة والمتوسطة.
التفاوض بين لبنان والكيان الإسرائيلي اليوم لا يمكن فهمه بمعزل عن هذه الديناميكية. فهو امتداد لصراع نفوذ دولي تتقاطع فيه مصالح الولايات المتحدة، الصين، روسيا، تركيا، إيران وإسرائيل.
أي خطوة على الحدود أو في ملفات النفط والغاز مرتبطة مباشرة بهذا الإطار، تمامًا كما كانت القوى الكبرى في زمن الحرب الباردة تحدد موازين القوى وترسم الحدود السياسية لدول أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.
الدور التركي يبرز بشكل خاص في المرحلة الراهنة، إذ يبدو أن نفوذ أنقرة بدأ يتخطى الجغرافيا السورية، وما شهدناه منذ ايام في بعض المناطق اللبنانية يشير إلى محاولات واضحة للتوسع نحو لبنان، مستندة إلى الجغرافيا والتاريخ والاعتبارات الاستراتيجية. لبنان هنا يظل متغيرًا حساسًا، حيث تُحكم خياراته السياسية والأمنية بمصالح خارجية أكثر من إرادة محلية.
في النهاية، احتمال اندلاع حرب وشيكة موجود، لكنه ليس السيناريو المرجح. ما نشهده اليوم أقرب إلى مرحلة حذر وتحرك محسوب، تُحدد خلالها قواعد الاشتباك ومساحات النفوذ، مع تمهيد الطريق لمسار سياسي محتمل خلال عام 2026، تمامًا كما كانت القوى الكبرى تضبط سياسات الدول الصغيرة والمتوسطة في زمن الحرب الباردة.
الواقع يشير إلى أن المنطقة، ولبنان تحديدًا، يدخلان مرحلة إعادة ترتيب واسعة. ما يحدث ليس مجرد صراع على الأرض، بل هو معركة نفوذ صامتة تُخاض على طاولة الكبار قبل أن تتضح نتائجها على الأرض.
باختصار، من لا يقرأ الأحداث بمقاربات جيوبوليتيكية قد يظن أن كل ما يجري مجرد صدفة، بينما الواقع يكشف عن خيوط استراتيجية تتحرك خلف الكواليس.
