في تونس، عاش حياة مليئة بالمخاطر، ورحلة نضال لأجل الحرية والديمقراطية التي حلم بها طول حياته، كلّفته السجن والنفي، لكنّ ثورة الياسمين أعادته للبلاد سنة 2011، وعُيّن رئيسا لتونس في لحظة مفصلية وفارقة سياسيا وتاريخيا، هو المنصف المرزوقي، الذي حاول أن يحكي في كتاب “الرحلة.. مذكرات آدمي” رحلته في الحياة السياسية الطويلة التي عاشها.
يوم السبت الماضي، وفي أمسية باردة الأجواء ودافئة النقاش بالعاصمة المغربية الرباط، كان الموعد مع قراءة قيّمة في مسار “الرحلة”، حيث نظمت المؤسسة الإعلامية “صوت المغرب” بمناسبة ذكرى تأسيسها الثانية، ندوة علمية على شرف المنصف المرزوقي، شارك فيها رئيس الحكومة المغربية السابق سعد الدين العثماني، إلى جانب الأكاديمي المغربي حسن أوريد، والسّياسية المغربية حسناء أبو زيد.
الرحلة هي تأملات فكرية عميقة
بالنسبة لرئيس الحكومة المغربي السابق، الذي يتقاسم مع منصف المرزوقي تاريخا سياسيا في السلطة، فإن كتاب “الرحلة: مذكرات آدمية”، ليس مجرد مذكرات، بل هو فضاء واسع للتأملات، موضحا أن أوضح أن من أهم ما يميز العمل سيطرة البعد التأملي عليه، فهو ليس كتابًا عقلانيًا، بل يمزج بين التأمل في الواقع الحقوقي والسياسي والثقافي، ويطرح في مختلف صفحاته أسئلة وجودية عميقة.
المرزوقي مناضل شرس دفع ثمنًا غاليًا في الماضي والحاضر دفاعًا عن قيم الكرامة والحرية والديمقراطية في بلده، يقول سعد الدين العثماني، ويضيف أن “هذه السيرة النضالية انعكست بوضوح في الكتاب، بما يحمله من أثر الألم الذي عاشه ويعيشه المرزوقي، وهو ما يميز دائمًا هموم المصلحين”.

في حديثه، اعترف العثماني بجرأة صريحة أنّه لم يقرأ مُجمل صفحات الكتاب الممتد على 600 صفحة، مُعتبرا أن قراءة كتاب هو مسار 30 سنة من التأليف تستوجب وقتا طويلا، وقراءات متعددة، لمعرفة النص أولا، ومعرفة صاحب النص.
السياسي الكاتب…كائن مهدد بالانقراض
على غرار ما ذكره سعد الدين العثماني، أقرّ الكاتب والمفكر حسن أوريد أن قراءة كتاب الرحلة ليست هينة، وأضاف أنه “يوحي بأنه سيرة ذاتية، لكنه ليس كذلك بالمعنى التقليدي للسيرة التي تشبه “الحكي” أو “تحليل للذات”. بل وصفه بأنه عمل يصعب تجنيسه، ويشبه “رحلة”، حيث تكون “الرحلة في حد ذاتها” هي الأهم”.
وأثار مؤرخ المملكة المغربية سابقا ملاحظة مُهمة في حديثه حول الكتاب، هي أن “السياسي يكتب”، واصفا أن هذه الشريحة “مهددة بالانقراض”، ومؤكدا أن “السياسي الكاتب هو شخص يفكر، وينسق، وليس صاحب أحكام حادة، على خلاف عالم السياسة، ويستطيع أن ينسلخ من السياسة ليعيش بعدها بحرية”.
يُقارن أوريد بين رحلة الرئيس المرزوقي ورحلة أبو العلاء المعرّي كونها “رحلة يخوضها في الذات ومن الذات”، ويصفها بـ”الغابة التي يتيه فيها الشخص” كون الكتاب غير متسق، وجمالية الرحلة هي في عدم الاتساق، حيث التنوع الفكري، قضايا كحروب الناس التي يجهلون علتها، ويقارن “فلسفة التحية عند الهنود” ببعض حضارات حوض البحر الأبيض المتوسط.

رحلة الآدمي..ارتطامات فكرية مضنية

في كلمتها حول كتاب “الرحلة”، ذكّرت السياسية المغربية حسناء أبو زيد ابنة الصحراء، بالمشترك الإنساني والجغرافي الذي يجمع أبناء المنطقة، وقدّمت بصوتها الرّصين، نصا سرديا امتزجت فيه القراءة النقدية بكمّ من المشاعر، فقالت في ذلك “إن رحلة الآدمي.. إلى الإنسانية ليست شيقة، لكنها ضرورية، رحلة من الارتطامات الفكرية والفلسفية المضنية، بل أكثر من هذا، هي رحلة محفوفة بالمخاطر.”
وأضافت أبو زيد أنّ مؤلف الرحلة، “لا يحمل لنا أجوبة وتعاويذ وتطبيقات، بل ينتمي إلى أوراق التجارب التي تحمل المسافر على متنها إلى فلسفة حياة…”، ملفتة إلى “أنّنا لا ننتظر جواباً من المناضل الإنسان الذي ناضل صادقاً، الذي انكسر صادقاً.. والذي انتصر.. صادقا، بل ننتظر أملاً وإيماناً”.
أمام هذا السّيل من الاعتراف والتقدير والنقد الدافئ، كان لابدّ لصاحب الكتاب منصف المرزوقي أن يتحدّث ويقول كلمته من الرباط للحضور الذين منهم من قرأ كتاب الرحلة ومنهم يعرفه لأوّل مرة، فكان أن كشف عن فكرة كتابه التي انطلقت من لحظة مؤثرة وفارقة ألهمته قبل ثلاثين سنة حين سمع رجلا مريضا يقول: “الله ينهي هذه الرحلة على خير”، موضحاً أن وصف الرجل لبدايته ونهايته بكونها “رحلة” كان الإلهام الذي دفعه لكتابة “الرحلة”.
وعبّر المرزوقي عن امتنانه بوجوده في المغرب، وذكّر بفكره الوحدوي بأنّه يعتبر المغرب بلده الأول على غرار تونس، وعن سعادته بأنه يستطيع ألاّ يتحدّث بصفة السيّاسي، ذلك أن علاقته بالسياسة لم تكن بسيطة، بل هي واجب، والواجب كان مقلقا ومزعجا وباهظ الثمن.
وشدّد الرئيس التونسي الأسبق على أن نجاح كتابه “الرحلة..مذكرات آدمي” سيتحقق عندما يجد كل قارئ نفسه في الكتاب، مبرزا أنه حاول أن يكتشف المشترك الإنساني قائلا في ذلك: “أنا وصلت إلى تجربة السجن والسياسة، أنت وصلت إلى كذا، لكن أكيد هناك مشترك يجعلنا كلنا نعيش نفس القصة والرحلة”.
مسار الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي لا تسعه مقالات أو حتى كتب، فتاريخه السياسي والإنساني يجعل منه رجلا يتجاوز مكانه وبلده تونس ومنطقته المغاربية والعربية التي ينتمي إليها، ونحن أمام رجل بصم رحلته بالإنسانية والمبادئ والمواقف الأخلاقية والفكر والثقافة قبل أي شيء آخر، وتجربته كما قال حسن أوريد في ختام حديثه “تستحق أن تُقرأ وتُروى”.
