كثير من المراقبين الإسرائيليين، سواء كانوا من المقربين من الحكومة الإسرائيلية أو من المعارضين لها، يشغلهم سؤال واحد، أضحت إجابته «ملتبسة» وشديدة الغموض هو: هل باتت فرص إنجاز التفاوض الإسرائيلي مع السلطات السورية الجديدة «فرصاً ضائعة» على ضوء التداعيات السلبية للهجوم الإسرائيلي، الذي شنته قوات خاصة إسرائيلية على قرية «بيت جن» بريف دمشق جنوبي سوريا؟
السؤال دوافعه كثيرة، أولها ما تأكد، على أرض الواقع، من يقين إسرائيلي بأن الأوضاع الداخلية في سوريا، رغم كل ما حدث من انكسارات وتداعيات لقدرات «القوة العسكرية السورية الشاملة»، وما ترتب على ذلك من خلل هائل في توازن القوة لصالح إسرائيل،
لا تسمح بالخضوع السوري لمشروع فرض الوصاية الإسرائيلية على سوريا بقوة السلاح، سواء على مستوى السلطات الرسمية الحاكمة أو على المستوى الشعبي السوري، خصوصاً في المنطقة الجنوبية الحدودية. وأيضاً ما حدث من «مقاومة شعبية» فاجأت القوات الإسرائيلية في قرية «بيت جن» أكدت هذا المعنى بجلاء، وما زالت تداعياتها مربكة لقيادة الجيش الإسرائيلي. وثانيها، ردود الفعل الأمريكي، خاصة على لسان الرئيس دونالد ترامب، وكبار المسؤولين في إدارته الرافضة لأي محاولات إسرائيلية لزعزعة الاستقرار السوري وتهديد شرعية الرئيس أحمد الشرع، ولعل هذا ما دفع رئيس الحكومة الإسرائيلية وحكومته إلى التزام الصمت بعد الهجوم الإسرائيلي «الفاشل». وثالثها، التحسب الشديد لعدم إعطاء تركيا أي مبرر أو حوافز للدفع بقوات لها نحو الحدود الجنوبية السورية مع إسرائيل، وما يعنيه ذلك من خطرين، أولهما: خطر حدوث مواجهة مباشرة مع القوات التركية، وثانيهما، إحداث قدر من «توازن القوة» لصالح الطرف السوري، من شأنه عرقلة ما تطمح إليه إسرائيل من التغلغل بالنفوذ السياسي والسيطرة العسكرية، انطلاقاً من الجنوب السوري.
بدأت عملية «بيت جن» قرابة الثالثة فجر الجمعة الماضية، بهجوم شنه جنود من لواء الاحتياط – 55 و«الفرقة 210»، لاعتقال شقيقين من القرية الواقعة على سفوح جبل الشيخ في سوريا، انتهت بإلقاء القبض على الشقيقين في فراشهما بزعم انتمائهما لما يسمى ب«تنظيم الجماعة الإسلامية»، والاشتباه في قيامهما بزرع عبوات ناسفة ضد قوات الأمن الإسرائيلية، وإطلاق صاروخ على قوات الجيش الإسرائيلي، لكن قبل مغادرة القوات الإسرائيلية المهاجمة، فوجئت بهجوم مضاد من مسلحين أطلقوا النار على إحدى المركبات العسكرية التي كانت تسد مدخل المبنى المهاجم، فأصيب 6 من العسكريين (3 ضباط و3 جنود) إصابات ثلاثة منهم خطِرة، ما دفع الطيران الإسرائيلي لمهاجمة القرية وتدمير تلك المركبة، ما أدى إلى سقوط 13 ضحية وأكثر من 20 جريحاً بينهم نساء وأطفال من أهالي القرية.
السلطات الرسمية الإسرائيلية التي أصابها الهلع من الهجوم المضاد، وانشغلت بتحليل مصادره، وما إذا كانت هناك معلومات قد تسربت عن هذا الهجوم قبل وقوعه أم لا، لكن محللين إسرائيليين، فندوا أكذوبة تلك السلطات في تبرير دوافع الهجوم بأنه «عملية أمنية لمكافحة تنظيمات إرهابية»، ورجحوا أن يكون السبب الحقيقي لهذا الهجوم الإسرائيلي هو فشل جولة المفاوضات الأخيرة بين دمشق وتل أبيب، التي حاولت فيها إسرائيل فرض إرادتها بضم أراضٍ سورية، وفقاً لمبدأ «السلام بالقوة»، حيث كان المفاوضون الإسرائيليون قد عرضوا خيارين على المفاوضين السوريين: إما التوصل إلى اتفاق سلام كامل تتنازل فيه دمشق عن أراضى الجولان المحتلة منذ عام 1967، وإما مجرد «اتفاق تفاهمات مرحلي» تُبقى فيه إسرائيل احتلالها لعشر نقاط في عمق الأراضي السورية من «جبل الشيخ» شمالاً وحتى الحدود الجنوبية.
الاتفاق التفاوضي لم يفشل فقط، لكن الهجوم على قرية «بيت جن» زاد من تصلّب مواقف الحكومة السورية، وزادها تشكيكاً في نوايا إسرائيل، بأنها «لا تريد سلاماً مع سوريا بقدر ما تريد فرض وصاية عليها»، ودانت وزارة الخارجية هذا الهجوم في بيان اعتبرته «جريمة حرب مكتملة الأركان»، وبعده، صرّح وزير الخارجية أسعد الشيباني، بأن الاعتداءات الإسرائيلية على بلاده «لا تستهدف سوريا فحسب، بل تسعى إسرائيل من خلالها إلى تقويض الاستقرار وتهديد أي مسار سياسي في المنطقة»، وشدد في مؤتمر صحفي مع نظيره الدنماركي على التزام سوريا باتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 مع إسرائيل.
الأكثر أهمية هو ردود الفعل الأمريكية على تلك السياسات الإسرائيلية، فإذا كان مسؤول أمريكي كبير، نقلت عنه «القناة 12» العبرية: «إن ما تقوم به إسرائيل سيحوِّل النظام الجديد في سوريا إلى عدو لإسرائيل»، فإن الرئيس الأمريكي ترامب حذّر إسرائيل من التدخل في سوريا وزعزعة استقرارها، وطالب إسرائيل بأن «تحافظ على حوار قوي وحقيقي مع سوريا»، وأجرى مكالمة هاتفية مع نتنياهو ودعاه لزيارة البيت الأبيض.
مؤشرات مهمة تؤكد كلها، أن الأمور لا تسير على النحو الذي تريده إسرائيل، وهذه بدورها، ربما تكون إشارة مهمة للعجز الإسرائيلي عن فرض مشروعها التوسعي في لبنان.
المصدر:صحيفة الخليج
د. محمد السعيد إدريس
