الوكالة العربية الافريقية
بعد عقدٍ من التوتر، استعادت القاهرة وأنقرة تمثيلهما الدبلوماسي على مستوى السفراء في 4 يوليو/تموز 2023، فاتحةً مسارًا تدريجيًا نحو التطبيع الشامل والتنسيق في ملفات إقليمية شائكة مثل غزة وليبيا وشرق المتوسط. ولعل زيارة وزير الخارجية المصرية بدر عبد العاطي اليوم الى انقرة والملفات المهمة والغنية التي ناقشها مع كبار المسؤولين الاتراك وفي مقدمهم نظيره التركي، تعكس بعمق انتقال العلاقة من مرحلة إدارة الخلاف الى افق التقارب المبني على المصالح المشتركة في منطقة عرفت العديد من الحروب والأزمات.
زيارة عبد العاطي لأنقرة اليوم جاءت لعقد الجلسة الأولى لـ«مجموعة التخطيط المشتركة» بين وزارتي الخارجية، وهي آلية جديدة لتنسيق الأجندة الثنائية والتحضير لخطط على مستوى أعلى. وهذا الأمر ينقسم إلى اتجاهات عديدة متكاملة وأبرزها:
-
انعاش قنوات التشاور السياسي والأمني والإقتصادي
-
استحداث «مجموعة التخطيط المشتركة» التي يترأسها الوزيران لتتبع تنفيذ ما اتُّفق عليه وتجهيز ملفات مجلس أعلى للتنسيق
-
عودة الاتصالات رفيعة المستوى منذ 2023، وصولًا إلى لقاءات 2024/2025، بما في ذلك التوافق على رفع التجارة والتهيئة لتفاهمات أوسع.
-
التنسيق في ملف غزة
-
البلدان جزء من وساطات وقف إطلاق النار، مع حديث تركي-مصري عن مراقبة التنفيذ وإعادة الإعمار؛ وكان ذلك ضمن جدول مباحثات اليوم.
-
الدفاع والبحرية
-
إعلان من الشهر الماضي عن تدريبات بحرية مشتركة لأول مرة منذ 13 عامًا («صداقة البحر»)، في شرق المتوسط—إشارة رمزية إلى تخفيف الحساسية العسكرية.
-
الاقتصاد والاستثمار
-
استثمارات تركية قائمة في مصر تُقدَّر بنحو 3 مليارات دولار، مع نحو 200 شركة وتشغيل واسع مباشر وغير مباشر؛ وتأكيدات تركية-مصرية على هدف رفع التجارة إلى 15 مليار دولار خلال بضعة أعوام.
-
دعوة مصرية مباشرة اليوم لرجال أعمال أتراك لاستكشاف فرص المنطقة الاقتصادية لقناة السويس (SCZone).
-
شرق المتوسط والطاقة والتباين السابق
-
الإرث التنازعي حول ترسيم الحدود البحرية وتحالفات الغاز لم يُحسم كليًا؛ لكن دوائر بحثية ترصد تحوّلًا من «الصِدام» إلى «إدارة تنافس» مع محاولات لاستثمار ديناميات الطاقة الجديدة بدل تدوير صراعها.
-
ليبيا
-
تباين مقاربات البلدين قائم منذ سنوات، لكن حدته خفّت مع توسيع قنوات التشاور بعد عودة السفراء. (إطار الخلفية: مسار التطبيع منذ 2023).
-
ممرات الطاقة والبُنى العابرة للحدود
-
مشاريع الربط الكهربائي والإمدادات إلى أوروبا عبر مسارات بديلة (مثل الربط اليوناني-المصري) تخلق ساحة تنافس «ناعم» على أدوار الترانزيت الإقليمي، حتى مع توسّع الحوار التركي-المصري.
المصالح المشتركة والتبادل المتنامي.
-
الحجم الكلي: تشير بيانات وتصريحات حديثة إلى اقتراب حجم التبادل من 9 مليارات دولار في 2024، مع هدف مشترك للبلدين بالوصول إلى 15 مليارًا خلال سنوات قليلة.
-
تظهر قواعد بيانات التجارة الدولية (OEC) أن التدفقات الشهرية استمرت خلال 2025 مع تذبذبات على أساس سنوي (أمثلة: يوليو/تموز وأغسطس/آب 2025). هذا يعكس استمرار القاعدة الصناعية-التجارية المتينة رغم تقلّبات الظرف الإقليمي.
-
التركيب السلعي (اتجاه عام): صادرات مصر إلى تركيا تتركز في الكيماويات والأسمدة والغاز المسال وبعض المنتجات الزراعية، بينما تصدّر تركيا إلى مصر مواد وسيطة وصناعات تحويلية (منسوجات، مكوّنات سيارات، أجهزة منزلية). (استدلال مُستند إلى سلاسل OEC وتقارير الأعمال منذ 2022–2024).
-
الاستثمار والتشغيل: وجود قرابة 200 شركة تركية ونشاط إنتاجي للتصدير انطلاقًا من مصر إلى أفريقيا والمنطقة، مع تداول رقم نحو 100 ألف وظيفة ارتبط بعمليات هذه الشركات بحسب تصريحات تركية حديثة.
ماذا يعني ذلك؟
خريطة التجارة تُظهر أن «التكامُل الصناعي» ممكنٌ: مصر سوق إنتاجي ولوجستي وصناعي نامي (أجور، موقع، اتفاقات تفضيلية أفريقية وعربية)، وتركيا قاعدة صناعية تصديرية ذات شبكة مورّدين متقدمة. التقارب السياسي يَفتح الباب لنقل استثمارات ومكوّنات سلاسل التوريد بين الطرفين بدل تَركها أسيرة اصطفافات شرق المتوسط. يضاف الى ذلك القدرات البشرية الكبرى بين البلدين ، ذلك أن الساعة السكانية في مصر سجّلت 108 ملايين مواطن داخل البلاد في 16 أغسطس/آب 2025 ( وهذه الارقام لا تشمل المصريين في الخارج)، أما عدد سكان تركيا المُعلن فهو يقارب 86 مليون نسمة، وهذا يعني أن السوقين التركي والمصري يقاربان 194 مليون نسمة مجتمعَين، ومجالين جغرافيين يربطان البحرين المتوسط والأسود بالبحر الأحمر والقرن الأفريقي. هذا الثقل الديموغرافي-الجيوسياسي يجعل التكامل الاقتصادي—لا سيما التصنيع الموجّه للتصدير والطاقة واللوجستيات—أكثر جدوى من إدارة «صِفرية» للتنافس.
إن القدرات المصرية والتركية هائلة، والجغرافيا شاسعة، والمجتمعات شابة، والدبلوماسية نشطة جدا، وهذا أكثر من مهم للتقارب في مجالات السياسية والاقتصاد والأمن والطاقة وسط تنافس عالمي عالي الحرارة وبالتالي إذا ما تحوّل «التقارب السياسي» إلى مؤسسية تنفيذية عبر «مجموعة التخطيط المشتركة» مع أهداف كمية واضحة (تجارة 15 مليار دولار، خرائط استثمار قطاعية)، فستنتقل العلاقة من «تطبيعٍ حذِر» إلى «شراكةٍ مُدارة بالمصالح». وهذا مايجعل زيارة عبد العاطي اليوم الى انقرة خطوة عملية وأكثر من هامة في هذا الاتجاه
