يمثل اللقاءُ التّاريخيُّ بين ترامب والشّرع في البيت الأبيض، نقطةَ تحوّلٍ في العلاقاتِ الأمريكيّة السّورية، بعد ثمانية عقودٍ من التقلّبات، مجسدًا الواقعيّة السياسيّةَ والبراغماتيّةَ بصورةٍ جليّة.
هيمنَ مصطلح “تاريخيّ” على التّغطيةِ الإعلاميّة العربيّة والدوليّة للقاء دونالد ترامب وأحمد الشرع. وصفٌ يسّوغُهُ سببان : أولًا، يُعدّ الشرع – الذي عُرف خلال سنواته الجهاديّة باسم أبو محمّد الجولاني – أوّلَ رئيسٍ سوريّ يدخل المكتبَ البيضاويَّ منذ استقلال سورية عن فرنسا عام ١٩٤٦. ثانيًا، تُمثّل القمّة تجسيدًا واضحًا وجليًّا للواقعيّة السياسيّة على الطريقةِ الأمريكية. فبعد مرورِ ما يقرب ربع قرن على أحداثِ ١١ سبتمبر ٢٠٠١، يستقبل البيتُ الأبيض الآن أحد أعضاءِ تنظيم القاعدة السابقين بحفاوة بالغة، على الرغم من دخوله اجتماعًا مغلقًا من مدخلٍ ثانويّ، بغياب الصحافة، مُكمِلًا بذلك عمليّةَ إعادة تأهيلٍ بدأت قبل أشهر وحظيت بدعم قويّ من ترامب نفسه.
يتضمّنُ جدول الأعمال ملفاتٍ رئيسيّة، لاسيّما اقتصاديّة وأمنيّة: احتواء تنظيم الدولة الإسلاميّة (الذي لا يزال وجوده ملموسًا، وإن كان كامِناً)، بعدَ إعلان دمشق قرارَها بالانضمام إلى التحالف الذي تقوده الولايات المتّحدة ضد داعش؛ رفع العقوبات التي فُرضت على سورية في عهد بشار الأسد، بشكلٍ كامل، مع إعلان وزارة الخارجية عن تعليق إضافي لمدة 180 يومًا؛ العلاقات المضطربة بين سورية وإسرائيل، والتي تشكّلُ نقطةً تعتمدُ عليها إعادة رسم المنطقة، كما تتصوّرها إدارة ترامب.
تاريخٌ حافلٌ بالتقلّبات
يأتي لقاءُ ترامب بالشرع بعد 80 عامًا من علاقاتٍ اتّسمت بالتقلّباتِ بينَ البلدين، والتي غالبًا ما تأثرت بإشكاليّة قرب سورية من إسرائيل. فبعد الحربِ العالميّة الثّانية، سعت سورية إلى الاعترافِ الدوليّ وانضمّت إلى الأممِ المتّحدة كعضو مؤسس. سعى الرئيس شكري القوّتلي إلى تعزيزِ العلاقاتِ مع واشنطن، لكن الصّراعَ العربيَّ الإسرائيليّ عام 1948 والدّعم الأمريكي لإسرائيل حالا دون ذلك.
خلال الحربِ الباردة، تحوّلت سورية إلى ساحةِ معارك بين الولاياتِ المتّحدة والاتّحاد السوفيتيّ. إلّا أنّ تحالفَها مع مصر في عهدِ جمال عبد الناصر عزّز انحيازَ دمشق إلى موسكو. عندما تولّى حزبُ البعث وحافظ الأسد السّلطةَ عام 1970، ظلّت العلاقاتُ متوتّرةً مع واشنطن، فيما كانت سورية تحاولُ لعِبَ دورٍ دبلوماسيٍّ في الشرقِ الأوسط.
لم تثمر زيارةُ الرئيس ريتشارد نيكسون إلى دمشق في العام 1974، التي كانت تهدف إلى إشراك سورية في عمليّةِ السّلام بعد حرب أكتوبر، عن نتائج ملموسة. في تسعينيات القرنِ الماضي، وفي عهد بيل كلينتون، شهدت العلاقاتُ تحسّنًا جزئيًّا: زار كلينتون دمشق عام ١٩٩٤ والتقى الرئيس حافظ الأسد عدّةَ مرّاتٍ لمباحثةِ السّلامِ مع إسرائيل، لكن دون جدوى. بعد عام ٢٠٠٣، اتهّمت الولاياتُ المتّحدةُ سورية بدعم الجماعاتِ المسلّحةِ في العراق ولبنان، وفرضت عقوباتٍ عليها، ثمَّ تدهورت العلاقاتُ إلى أدنى مستوياتها في أعقاب الربيع العربي عام ٢٠١١. خلال الحرب الأهليّة، دعمت واشنطن قوى المعارضة السياسيّة والعسكريّة، بينما اعتمد بشار الأسد – الذي سقطَ في ديسمبر ٢٠٢٤ – على الدّعمين الروسيّ والإيرانيّ.
احتواء “العدوّ المنسي”
تمحورَ اجتماعُ البيت الأبيض بصورةٍ أساسيّةٍ حولَ التعاونِ الأمنيّ. أعربت سورية عن استعدادِها للانضمامِ إلى التحالفِ ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بقيادةِ الولاياتِ المتّحدة، التنظيمُ الذي لا يزال نشطًا في شرق سورية عبر شبكاته الخلوية، على الرغم من خسارتِه خلافتَه الإقليميّة عام 2019. كما تشيرُ تقديراتٌ موثوقة إلى أن قوات سورية الدّيمقراطيّة (قسد) بقيادة الكُرد، تحتجز حاليًا حوالي 50,000 سجين من داعش، معظمُهم من النّساء والأطفال، في معسكراتٍ كمخيم الهول (الذي يضمّ ما بين 30,000 و35,000 معتقل).
تشكّلُ هذه المعسكراتُ حاضناتٍ للتّطرف، وهيَ قابلةٌ للانفجارِ في أيّ وقت، حيث تجنّدُ خلايا داعش الشبابَ بوسائلَ دعائيّة، مستغلّةً الظّروفَ المعيشيّة الصّعبة. يشكّلُ الأمرُ تحديًّا كبيرًا للشرع، بصفتهِ القائد السّابق لفرع القاعدة في سورية والذي اشتبكَ بعنفٍ مع داعش، مما أدى إلى صراعٍ مفتوح بين الجماعتين. اليوم، وبصفته رئيسًا “معتدلًا”، فقد اعتمد نهجًا براغماتيًّا. مقابل تخفيفِ العقوبات، كلّف البيت الأبيض دمشقَ بمنع عودة داعش وتحمّل مسؤولية مراكز الاحتجاز.
رفع العقوبات أم استمرارها؟
شهدَ يوم الاثنين انعقادَ القمّة الثالثة بين ترامب والشّرع، بعد لقائِهما الأوّل في السّعودية في مايو/أيار الماضي، ولقاءٍ وجيزٍ على هامش الجمعيّة العامّة للأممِ المتّحدة في سبتمبر/أيلول. في هاتينِ المناسبتين، ركّز الشرع ووفدُه على حلّ القضيّة الاقتصاديّة الأكثر إلحاحًا في سورية وهيّ العقوبات. بعد اجتماع الرياض، أعلن ترامب عن خططٍ لرفعِ العقوبات كافّةً، لكنّ أشدّ العقوبات – المعروفة بقانون قيصر – تتطلب موافقةَ الكونغرس.

يسعى الشّرع بنشاط إلى رفعها، حيث التقى بسياسيّين يظهرونَ تردّدًا تجاه الأمر، مثل عضو الكونغرس الجمهوريّ برايان ماست من فلوريدا. يتمثّلُ هدفُه، الذي عززته محادثاته مع المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا، بفتح الاقتصاد السوريّ الذي بقي مغلقًا لفترةٍ طويلة وتحت سيطرةِ الدّولة، وجذبِ الاستثمارات الدوليّة إلى بلد دُمّرَ بعد 14 عامًا من الحرب. ووفقَ تقديرات البنك الدولي فإن إعادة الإعمار سوف تتطلب أكثر من 200 مليار دولار (مقابل نحو 65 مليار دولار لقطاع غزة).
الثمنُ المرّ
طالما شكّلت علاقة سورية بإسرائيل محورَ علاقَاتها مع الولايات المتّحدة، وزيارة الشرع لواشنطن ليست استثناءً. أقرّ ترامب، عشيّة القمة، قائلاً: “أعتقد أنّهُ يُبلي بلاءً حسنًا. إنها جيرةٌ صعبة”. منذ سقوط الأسد قبل عام، قصفت إسرائيل سورية مرارًا وتكرارًا، بما في ذلك دمشق، بل وشنّت غاراتٍ بريّة على القنيطرة ودرعا.
تؤكد سلطات كلا البلدين استمرارَ المفاوضاتِ بوساطةٍ أمريكيّةٍ بغيةَ التوصّلِ إلى اتفاقيّةٍ أمنيّةٍ جديدة، مما قد يُمهّد الطريق لتطبيع العلاقات. من جهة إسرائيل، أكّدَ بنيامين نتنياهو أنّ الهدف هو نزعُ السّلاح من جنوب غرب سورية وتأمين السكّان الدروز.
عملَ الشرع على تخفيفِ التوتّرات وتعزيز التقارب، مع أنه يعتبر التطبيعَ الكامل أمرًا سابقًا لأوانه. من جانبه، أوضح ترامب أن خروجَ سورية من النفوذ الإيراني يُعدّ نصرًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة. إذا استطاعت دمشق إقامة تسويةٍ مؤقّتة مع إسرائيل، فسوفَ يتماشى ذلك مع أهداف واشنطن. كماَ عطّلت الإدارة السوريّة الجديدة ممرّ الإمداد الإيرانيّ إلى شركائها الإقليميين، لاسيّما حزب الله، واستولت على شحنات أسلحة متعدّدة – وهي خطوات تخدم، عن قصدِ أو عن غير قصد، المصالحَ الإسرائيلية أيضًا. ووفقًا لسبقٍ صحفي لرويترز، قد تدعم الولايات المتحدة “رادعًا حاسمًا” من خلال إنشاء قاعدةٍ جويّةٍ جديدة في دمشق. تنفي وزارة الخارجية السورية هذه التقارير، لكنّ المفاوضات جارية بالتأكيد.
ما المُتوقّع؟
تُتوّج زيارة الشرع إلى واشنطن عامًا من إعادة التموضع الديبلوماسيّ، لكنَّ التهديدات الأكبر التي تثقلُ سورية تبقى داخليًّة. أعطت الحكومة الانتقالية الأولويَّةَ للعلاقاتِ الدوليّة، بالذّهابِ إلى المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة وقطر، واجتمعت مع قادة العالم، بمن فيهم ترامب. أمّا على الصّعيد الداخليّ فلا تزال البلادُ تواجهُ قوى طاردة : العلويون المستهدفونَ بالعنفِ الطائفيّ، الدروز، الذين تتودّد لهم إسرائيل لإضعاف دمشق، والأكراد الذين يسعون للحكم الذاتي مقابلَ محاربتِهم داعش، وأخيرًا، الجهاديّون الذين دعموا صعود الشرع. وعلى عكس الحكومات الإقليمية والغربية، يرفض هؤلاء تحوُّلَه “المعتدِل”، وقد يتحدّون سلطتّه الهشّة على المديّين المتوسّط والبعيد.
المصدر:المعهد الإيطاليّ للدراسات الدوليّة والسياسيّة
ترجمة: مرح إبراهيم
