راشيل بيطار

في مشهدٍ يلخّص تناقضات الشرق الأوسط المعاصر، دخل أحمد الشرع البيت الأبيض لا كخصمٍ أو متهمٍ بالإرهاب كما كان يُوصَف قبل عام ، بل كضيفٍ رسمي يجلس أمام دونالد ترامب بصفته “حليفاً محتملاً” في الحرب على التطرف.
الرجل الذي كانت صوره تتصدّر قوائم المطلوبين في واشنطن بات اليوم يُستقبل في قاعة الشرف نفسها التي احتضنت رؤساء دولٍ كبرى. وبين الصورتين، تتجسّد قصة تحوّلٍ سياسي مذهل: من مجاهد ملاحَق إلى شريك تفاوض، ومن رمزٍ للفوضى إلى وجهٍ جديدٍ يحاول إقناع العالم بأنه تغير ..
أسباب زيارة أحمد الشرع إلى واشنطن لم تكن عفوية ولا بروتوكولية، بل جاءت ضمن سياق سياسي دقيق ومُحمَّل بالرسائل. يمكن تلخيص أسبابها في ثلاث دوائر مترابطة: الشرعية، المصالح، والتحالفات الجديدة.
- البحث عن الشرعية الدولية المفقودة : بعد سنوات من العزلة، يدرك الشرع أن أي بقاء سياسي مستدام يحتاج إلى اعترافٍ خارجي، لا سيّما من الولايات المتحدة التي تملك مفتاح عودة سوريا إلى النظام الدولي.
الزيارة كانت، قبل كل شيء، محاولة لإعادة تأهيل صورته في الغرب وتقديم نفسه كرجل دولة “براغماتي” يمكن التعامل معه، لا كقائد سابق لتنظيم إرهابي
- المصالح الاقتصادية : فالوضع الاقتصادي المنهك في سوريا يشكّل تهديداً أكبر من أي حربٍ عسكرية.
لهذا، حمل الشرع إلى واشنطن ملفات واضحة: - تخفيف أو تعليق العقوبات الأميركية، وخاصة تلك الواردة في “قانون قيصر” التي خنقت الاقتصاد السوري.
- تشجيع الاستثمارات في مشاريع إعادة الإعمار، عبر تقديم ضمانات سياسية للشركات الغربية.
- طلب دعمٍ مالي غير مباشر عبر مؤسسات دولية (كصندوق النقد والبنك الدولي)، وهو أمر لا يمكن أن يتم دون ضوءٍ أخضر أميركي.
- إعادة رسم التحالفات الإقليمية : يريد الشرع تقديم نفسه كبديلٍ أكثر مرونة في المنطقة، قادر على لعب دور “صمام الأمان” بين القوى المتصارعة، خاصة بعد فتور العلاقات التركية–الأميركية وتراجع النفوذ الروسي في بعض الملفات إضافة الى أن بعض المصادر الغربية أشارت إلى أن اللقاء قد يكون تمهيداً لتفاهمٍ أمني غير معلن يشمل الحدود الجنوبية لسوريا وضمانات لإسرائيل مقابل دعمٍ اقتصادي وسياسي للشرع.
نستطيع هنا أن نضيف سببًا أخرَ شديد الأهمية : فالشرع يسعى إلىتعزيز شرعيته الداخلية وإظهار أن حكمه معترف به دولياً، مما يعزز موقعه في مواجهة خصومه السياسيين أو حتى حلفائه السابقين الذين بدأوا يشكّكون في بقائه.كما أن الزيارة جاءت في لحظة حساسة من تململ الشارع اقتصادياً، لذا أراد توجيه رسالة مفادها أن الانفراج قادم من الخارج، وأنه وحده يملك مفاتيح الحلّ.
أما عن نتائج هذه الزيارة فأهمها و أغربها انضمام سوريا بقيادة الشرع ” ابو محمد الجولاني سابقا” الى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولى الإسلامية الذي كان الجولاني منذ زمن ليس ببعيد من أهم قياداته .
أعلنت واشنطن بعد اللقاء عن تعليق مؤقت للعقوبات الاقتصادية المفروضة على دمشق لمدة ستة أشهر، خصوصاً تلك المتعلقة بالتحويلات المالية والمواد الإنسانية.
الهدف المعلن كان “منح الشعب السوري متنفساً اقتصادياً”، لكن عملياً، هذه الخطوة تُعدّ هدية سياسية للشرع تمنحه هامش تحرك اقتصادي في الداخل وتفتح باب المساعدات والاستثمارات “المشروطة”.
كما تم الاتفاق على تبادل بعثات دبلوماسية جزئية، أي “مكاتب ارتباط” بدل سفارات، في دمشق وواشنطن.
هذه الخطوة ترمز إلى نهاية مرحلة العزلة التي استمرت أكثر من عقد، وتفتح الباب أمام تواصل سياسي وأمني دائم بين البلدين.
الزيارة إلى واشنطن قد تكون من الناحية الدبلوماسية انتصاراً للشرع، لكنها من الناحية الأخلاقية تُذكّرنا بمدى هشاشة الذاكرة الدولية، التي تغفر بسرعة وتغضّ الطرف عن المآسي طالما وُجدت مصالح جديدة تُعقد باسم “الاستقرار” وربما كان هذا هو أكثر ما يثير الاستغراب: أن يتحوّل رجلٌ كان يوماً رمزاً للعنف إلى شريكٍ يُصفّق له في العواصم الكبرى، فيما ضحاياه لا يجدون حتى فرصة للمساءلة أو للذكر.
هكذا خرج الشرع من واشنطن منتصراً، لكن سوريا بقيت كما هي منهكة، صامتة، تنتظر عدالة لم تأتِ بعد.
