قطر عندَ مُفترقِ طُرق
The Economis ترجمة : مرح إبراهيم
بعد غزة، تحتاج قطر إلى حمايةِ نفسها من الهجمات وإنعاش اقتصادٍ يعاني من فائضٍ في الطاقة الإنتاجية والبناء.
وكأنّ قطر مكانٌ يُعرّف بمن يلجأ إليه، إذ رسّخت هذه الإمارة مكانتها الجيوسياسية باستضافتها متمردينَ وسياسيّين إقليميين في إطار محادثات سلام، وهي تعتمد لأمنها على قاعدة جوية أمريكية. بعد العام ٢٠١٠، أي عند اختيارها لاستضافة كأس العالم لكرة القدم ٢٠٢٢، اعتمد اقتصادها على الاستعداد لهذه البطولة. أمّا أشهر شركاتها فهي شركة الطيران.
على مدى السنوات القليلة الماضية، بدا هذا النموذج هشًّا. تعرّضت قطر لهجمتين خلال الصّيف الماضي: قصفت إيران القاعدةَ الجويّة الأمريكيّة فيها في يونيو/حزيران، وبعد ثلاثة أشهر، حاولت إسرائيل اغتيال قادة حماس، خلال تواجدهم في الدّوحة لنقاش وقف إطلاق النار في غزة. أمّا الاقتصاد فلا يزال يعاني من تداعيات انتهاء كأس العالم. ثمة عدد كبير من الشركات، والقليل من الزوار لدعمها كافّةً.
مع انتهاء حرب غزة، تشهدُ الإمارة الخليجية الصَّغيرة نقطة تحوّل، إذ تحتاج إلى تعديلٍ في سياستها الخارجية لحماية نفسها من أي هجوم مستقبلي، وإلى إعادة التركيز على الاقتصاد الذي أُهمِل خلالَ عامين من الفوضى في الشرق الأوسط، باعترافِ بعضِ المسؤولين.
تؤكد قطر أنها لا تزال عازمةً على التوسط في النّزاعات الإقليمية. ففي سبتمبر/أيلول، على سبيل المثال، ساعدت في التفاوض على إطلاق سراح إليزابيث تسوركوف، باحثة إسرائيلية روسية احتجزتها ميليشيا عراقية لمدة عامين. لكنّها باتت تركّز جهودها في مجالات أخرى. فقد لعبت دورَ الوسيطِ في المحادثات بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تُوجت باتفاق سلام في يونيو/حزيران. كما أنها تتوسط بين الحكومة الكولومبية وعصابة المخدرات “كلان ديل جولفو”.
يقول المسؤولون في الدوحة إنهم وسّعوا مجالات اهتمامهم، إذ لم يعد ثمة الكثير من القضايا التي تستحق الوساطة في الشرق الأوسط، مما يخفّف من المخاطر التي تنطوي عليها : فمن غير المرجح مثلًا أن تقصف كولومبيا الدوحة في حال أظهرت العصابةُ تعنّتًا خلال المحادثات.
تواجدَ قادة حماس في الدوحة بناءً على طلب أمريكا، بغيةَ التفاوض معهم، لكنّ قطر طالما كانت راعيةً للإسلاميين في المنطقة. ولم تكن الضربة الإسرائيلية أولى المشكلات التي جذبتها رعاية قطر للإسلاميين. ففي عام 2017، فرضت أربع دول عربية حظرًا على قطر، كان آنذاك دعم الإمارة لجماعة الإخوان المسلمين على رأس قائمة شكاواهم.
فهل ستُخفف الآن علاقاتها مع الإسلاميين؟ يتحدث بعض الدبلوماسيين عن صراع سلطة طويل الأمد بين المستشارين الموالين للأمير السابق، الذي تنازل عن العرش عام ٢٠١٣، وأولئك الذين عيّنهم خليفته. ويُقال إن الحرس القديم يدعو إلى سياسة خارجية أكثر أيديولوجية. يقول دبلوماسي من دولة خليجية، إشارةً إلى الأمير الحالي: “عليه التخلص من هؤلاء الرجال”. لكنّ الكلام أسهل من الفعل، فسلفه هو والده أيضًا. سوف تكشفُ ذلك نبرة قناةِ الجزيرة، القناة الإخبارية الفضائية التابعة للدولة، إذ اتخذت قناتها الناطقة بالعربية موقفًا مؤيدًا بشدة لحماس طيلة الحرب. وفي الشهر الماضي، أجرت الحكومة تعديلاتٍ إدارية، معيّنةً رئيسًا جديدًا لها من أحد أفراد العائلة المالكة.
في المقابل، تبحث قطر عن ضمانة أكثر رسميّةً من قبل الولايات المتحدة لحمايتها. في 29 سبتمبر/أيلول، أصدر دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يُعلن فيه أن أي هجمات على قطر ستُعامل على أنها “تهديد لسلام الولايات المتحدة وأمنها”. لم يكن هذا الضمانَ الأمنيَّ القاطع الذي ينص عليه ميثاق الناتو، لكن المسؤولين يأملون أن يكون رادعًا فعالًا، ويهدفون إلى التوصّل لاتفاقية دفاع أكثر تفصيلًا في الشهر المقبل.
قد يسهم ذلك في طمأنة مجتمع الأعمال الذي تزعزعَ إزاء هجمات الصيف. يعتمد اقتصاد قطر على احتياطها الضخم من الغاز الطبيعي. وقد أدى كأس العالم إلى طفرة بناء غير مسبوقة : استثمرت الحكومة بأكثر من 200 مليار دولار في بناء الملاعب والفنادق والمترو وغيرها من البنى التحتية. كان من المحتم أن تظهر آثار ما بعد كأس العالم، وإن كانت قد خفت قليلًا. نما الاقتصاد بنسبة 2.8% في عام 2024، مقابل 1.2% في عام 2023.
ومع ذلك، لا تزال علامات فرط الوفرة واضحةً في كل مكان. بلغ معدّل إشغال الفنادق 69% العام الماضي، أي تسع نقاط مئوية خلف دبيّ وعشر نقاط خلف أبوظبي. سوق العقارات مشبعٌ أيضًا، إذ انخفضت أسعار إيجارات الفلل بنسبة 7% خلال العام الماضي، وأسعار الشقق بنسبة 5%. وحسب التقديرات، فإنّ حوالي 20% من واجهات المحلات التجارية في مراكز التسوق في الدوحة شاغرة، والإيجارات في أدنى مستوياتها منذ عشر سنوات.
لا تزال منطقة West Bay تنبض بالحياة، هذا الحي الدبلوماسي الشاهق، كما سوق وسط المدينة. أمّا لوسيل، المدينة الجديدة الأنيقة شمال الدوحة التي استضافت نهائي كأس العالم، فتبدو وكأنها مدينة أشباح. المطاعم والمقاهي فارغة، وفي أماكن أخرى، يشكو العمال من عدم دفع رواتبهم.
في حين تضخّ المملكة العربية السعودية مبالغَ طائلة في تنويع اقتصادها، وتتمتع الإمارات العربية المتحدة بطفرة يغذّيها المغتربون الأثرياء، تظهر قطر وكأنها تمثل عودةً إلى نموذجٍ خليجيٍّ سابق : نموذج يعتمد على الهيدروكربونات والشركات الحكومية وعدد قليل من السّياح.
قد لا يكونُ ذلك مهمًا، إذ تعتمدُ معظمُ دول الخليج على تصديرِ النفط، وقد يبلغ الطلب على النفط ذروته قريبًا. وسوف يشهد غاز قطر طلبًا متزايدًا على مدى سنوات، فعدد سكانها لا يتجاوز 400 ألف نسمة، أي أقل بكثير من أي دولةٍ من دول الجوار، والتّنويع فيها ليسّ ضروريًّا كما في المملكة العربية السعودية، التي يبلغ عدد سكانها 20 مليون نسمة.
إذًا فقطر تنتظرُ التغيير الآن. يلمحُ الزائر القادم من المطار إلى المدينة سلسلةً من اللافتات الحمراء الزاهية التي تشير إلى ملاعب كأس العالم، من المفترض أن يفكّك واحدٌ منها تبرّعًا لدولة فقيرة (وهو لا يزال على حاله). تبدو هذه اللافتات وكأنها أطلالُ حقبة أكثر حيوية. لكن عددَ الزائرينَ سوف يرتفعُ قريبًا، إذ تستضيف قطر، في ديسمبر/كانون الأوّل، كأسَ العربِ، للمرة الثانية على التوالي.
