سامي كليب
صدر حديثًا عن داريّ ” كتابُنا” و”الأنام” في لبنان كتابٌ بعنوان: “مساواة، ولكن… أدوارٌ مُبعثرة وأسرةٌ مُغيّبة”. وهو يُغرّد خارج سُرب النسويّة العالميّة والعربيّة، وقد يُثير جدلاً كبيرًا ذلك أنّه يناقض الكثيرَ من النظريَّات التي طرحتها الحركةُ النسوية، ليس للمساواة بين المرأة والرجل فحسب، بل لتصوير المرأة (عند جزءٍ من هذه الحركة النسويّة) ضحيّة دائمة، والرجلَ ذئبًا دائمَ البحث عن طريدة.
الكاتبة منال بوكرّوم، إخصائيّة نفسيّة، عملت بين الإمارات العربيّة المتحدة ولُبنان، وشرحت في كتابِها ( الذي كان من المُفترض أن تصدر نسخته الأولى بالإنكليزية”، وأيضًا في محاضرتِها أثناء توقيع كتابِها قبل أيامٍ قليلة، على نحوٍ علميٍّ وموثّق، تطوّر الحركة النسويّة من الأسباب إلى النتائج، شارحةً، وهي التي عانت يُتمَ الأبِ والخال، كيف أنّها انخرطت عن طريق الصُدفة وظُلمِ الحياة لها، بالنسويّة في مقتبل العُمر، قبل أن تكتشف عواملَ الخلل فيها، ليس على المرأة فحسب، بل على بُنية العائلة بكاملها، وخصوصًا على الأطفال.
تقول:” لقد عشتُ حياة نسويّة عن غير قصد، وواجهتُ عواقبها وتداعياتها، رغم أنّني لم أؤيّد قط الحركة النسويّة الراديكاليّة”، ثم تضيف في مكان آخر:” إنًّ أسوأ أشكال عدم المساواة هو محاولة جعل الأشياء غير المتساوية متساوية” مُعتبرة أنَّ المطالبة بالتماثل التام بين الرجل والمرأة، تتجاهل الفوارق البيولوجيّة والنفسيّة، ما يؤدّي إلى تحميل المرأة أعباء مُضاعفة باسم الحُريّة. وهذه واحدة من الأسباب التي رفضتها الحركة النسوية، على اعتبار أنّه لا يحقّ للرجل التمسّك بالفوارق البيولوجية لفرض تفوقّه على المرأة.
الكاتبةُ المُبحِرةُ في توثيق شخصياتِ وتقلّباتِ الحركةِ النسويّة وتطورها الراديكاليّ، تعكسُ في الكثير من صفحاتِ كتابِها، عن قصدٍ أو غير قصد، جُزءًا من المعاناة الشخصيّة التي عاشتها ، والتي شرحت بعضَها بكثير من الثقة بالنفس والاعتزاز وشيءٍ من المرح، في محاضرتِها، ذلك أنّها بعد مرحلة اليُتمِ وجور الحياة، عاشت رحلةَ الكدّ والغُربة، والابتعاد عن والدتِها، التي لا شكّ في أنَّ تأثيرَها الإيجابي كان كبيرًا عليها.
لعلّ هذه التجارب الشخصيّة، تركت ندوبًا عاطفيّة في حياتِها، عرفت كيف تُعبّر عنها بالعلم والوثائق والشهادات، لتؤكّد أنَّ غياب الرجل عن حياة العائلة أقسى بكثير من كلّ النظريّات المناهضة له، فتقول: “كيف لي أن أقبل مبادئ تقلّل من قيمة الأسرة التي لطالما بحثتُ عنها؟ لقد تمنّيت أن أعيش حياة عائلية، لقناعتي بأنّ الرضا والاستقرار والأمان تكمن فيها”
تخصّص بو كرّوم فصلًا كاملًا لنقد ما تسميه “ثقافة الضحية” في الحركة النسويّة المعاصرة والتي تتهمها بأنّها:” علّمت النساء أن ينظرن إلى أنفسهنّ كضحايا للنظام الأبويّ… لكنّ لعب دور الضحية ليس وصفةً للسعادة “، وتقول:” إنَّ التمكين الذي يُروَّج له اليوم يرهق المرأة أكثر مما يحررها. وأستطيع أن أشهد أنّ معظم الأمهات العاملات يعانين من مستويات إرهاق وضغط نفسي تجعل حياتهنّ صفقةً سيئةً باسم التمكين”.
أقول إنّها تتّهم، لأنَّ من يتعمّق في سردها وتوثيقها وبعض العبارات المُنتقاة بدقّةِ صائغ الذهب، يستنتج أنَّ ثمّةَ شكوكًا تُريد الكاتبة الإشارة إليها تلميحًا، حول الأسباب الحقيقيّة التي تقف خلف بعض الحركات النسويّة في الغرب، وحول خلفياتِ بعض قادة هذه النسويّة الغربيّة، وتكاد توحي بأنَّ بعض هذه الأسباب كان لتفكيك الأسرة، واستبدالها بظواهر غريبة وبينها “المثليّة الجنسيّة” وغيرها.
من هذا المُنطلق يُصبح المحور المركزيّ في كتاب منال بوكرّوم، هو الدفاع عن الأسرة باعتبارها:” الملاذ الطبيعي للمرأة والرجل والطفل”، وترى أنَّ غياب الأم عن بيتها بدافع الوظيفة، وغياب الأب تحت ضغط الأدوار المربكة، جعلا الأسرة كيانًا هشًا مُهدَّدًا بالتفكك. ولذلك فهي تدعو إلى إعادة الاعتبار لدور الأمومة، وإلى سياسات عمل أكثر مرونة تراعي حاجة الطفل إلى الحضور العاطفي لوالدته.
قد يتعرّض الكتاب لكثيرٍ من الانتقاد والشجب، في عصرٍ باتت أحاديةُ التفكير أمرًا مُعتادًا، ووسائل التباغض الاجتماعي، سيفًا مُسلطًا على كلَّ من يُغرّد خارج سُرب القطعان، لكنَّ بوكروم لا تكتفي بوضع الإصبع على الجرح العائلي، بل تطرح مجموعة من الأفكار حول كيفيّة إيجاد الانسجام التام بين الرجل والمرأة، وحول أسس بناءِ عائلةٍ تعيش هناءةَ العاطفة ودفءَ المنزل. هي تذهب نحو علاقة ” تكامُليّة لا تنافُسيّة”، معتبرة أنَّ:” الرجل ليس المعيار، والمرأة ليست نسخةً عنه. لكلّ منهما قيمتُه وطاقتُه وأدوارُه المتمايزة. الحلّ ليس في الصراع، بل في التوازن الذي يحفظ الأسرة ويصون المجتمع».
يأتي كتاب:” مساواة، ولكن…” في زمن تتجاذبه تيارات متطرفة بين الدعوة إلى مساواة شكلية تتجاهل الفوارق، والدفاع التقليدي الجامد عن أدوار نمطية. والدفاع الحقيقي عن المرأة التي عاشت فعلاً في أزمنة مختلفة ومجتمعاتٍ متناقضة كثيرًا من ظُلم الذكوريّة، وبين كلّ هذا، تحاول بو كرّوم أن ترسم طريقًا ثالثًا: الاعتراف بحقوق المرأة كاملةً، لكن ضمن رؤية تحفظ كيان الأسرة وتعيد للأنوثة معناها.
الكتاب يزخر بأصوات نساء عشن هذا التناقض. إحدى الأمهات تقول:”لم أعد أشعر بأنني امرأة، أشعر وكأنني آلة”. أخرى تعترف:” إذا تحدثتُ عن ذلك الآن سأبكي… أشعر أنني مرهقة للغاية”. ثالثة تختصر الضياع:” لم أعد أعرف من أنا “.
تقارن بو كرّوم بين التجربة الغربية التي بلغت “حدّ الانهيار”، حيث أظهرت دراسات تراجع معدلات سعادة النساء في أميركا وأوروبا، وبين العالم العربي الذي استورد النموذج نفسه عبر العولمة. النتيجة، في الحالتين، متشابهة: نساء عاملات تحت ضغوط خانقة، وأطفال يكبرون في غياب أم حاضنة.
يقيني أنّ هذا الكتاب الجريء، سيثير جدلاً كبيرًا، وهو جدلٌ مشروع في سياق البحث عمّا هو أفضل للمرأة والرجل والعائلة. ففي الحركة النسويّة أيضًا كثيرٌ ممن يسعون لنُصرة المرأة في مجتمعاتٍ عديدة لا لتُصبح عدوّة للرجل، بل كي يراها شريكُها ويحترمها ويصونها، وبهذا المعنى فالكتابُ جسرٌ نحو نقاشٍ ضروري في عصر الذكاء الاصطناعي، ذلك أنَّ البشرية جمعاء رُبما تعيش آخر مراحل الحياة العائليّة قبل تفكّكها الشامل، وقبل الذهاب نحو حياة فردية منعزلة، تسعى لأخذ الدفء والعاطفة من آلاتٍ جامدة اخترعها الانسان وقد تقتل انسانيتَه، بقدر ما تقدّم له من تطورٍ علميّ هائل على مستوياتٍ مُختلفة.
ليس مطلوبًا منك عزيزي القارئ أن تكون مع ما طرحته منال بوكرم، او ضدّه، فقد نجد في الكتاب انحيازًا واضحة لمناهضة النسوية المعادية للرجل، لكنَّ المطلوب أن نصل جميعًا إلى مرحلة التفكير الصحيح بكيفية تكامل المرأة والرجل، والتوازُن الصحّي بينهما، فهُما خُلقا ليعيشا معًا بحُبٍ وتفاهُم واحترام متبادل، لا أن يُصبحا عدوّين يتقاتلان باسم الحقوق، فتضيع الحقوق ويضيعان.