مع الهزيمة التي تلقتها إيران في الحرب المستمرة منذ ما بعد السابع من أكتوبر، والتي تمثلت ـ وحتى قبل ضرب منشآتها النووية واغتيال قادتها ـ بكسر كافة حلفائها في المنطقة،
ومع استفحال الإجرام الذي تمارسه إسرائيل في غزة وضرباتها المستمرة على لبنان واليمن، صعد في المنطقة، وفي لبنان تحديدًا، تياران متضادان: أحدهما يعتبر أن سبب الحرب الحالية هم من يُطلقون عليهم مسمّى “أذرع إيران”، ويحملونهم مسؤولية جرّ المنطقة إلى حرب غير متكافئة أدت إلى هزيمة وخسائر، وأن المشروع الإيراني في المنطقة ما جلب إلا خرابًا حيث حلّ، وأن لا خلاص للمنطقة إلا بكسره.
ويقول الثاني إن إسرائيل لا تحتاج إلى ذريعة للحرب، بل هي تخطّط في كل حروبها إلى إنشاء إسرائيل الكبرى، وبالتالي بذريعة ومن دونها لا يمكن ائتمان جانب هذا المحتل، والمقاومة هي الحل الوحيد لضمان الوجود وصون الكرامة، وإن كانت إيران تطوعت أن تكون الداعم لحركات المقاومة، فالحلف مع إيران إذًا ليس مذمّة.
وفيما تأتي تصريحات المسؤولين الإسرائيليين حول إسرائيل الكبرى لتعزيز الحجّة لصالح الطرف الثاني، وتأتي ضغوط إعادة الإعمار والأزمات الاقتصادية ومخاطر العزلة الدولية، إضافةً إلى انكسار ميزان القوة العسكرية لصالح إسرائيل بشكل فاضح بعد السابع من أكتوبر، لتعزّز حجّة الطرف الأول، يغيب ويُغَيَّب الصوت الوطني، الذي يعتبر إسرائيل شرًّا مطلقًا، ولا يرى في إيران خيرًا مغدقًا، حيث كلاهما لديهما أطماع السيطرة على المنطقة، كلٌّ على طريقته.
مشروع إسرائيل الكبرى – السيطرة على الأرض
نشأ المفهوم أولًا كحلم ديني–رمزي، ثم صاغه اليمين الصهيوني في أوائل القرن العشرين كهدف سياسي، قبل أن يتحوّل بعد 1967 إلى مشروع عملي قائم على الضمّ والاستيطان، تُترجمه اليوم سياسات إسرائيلية متدرجة على الأرض. ومع تصريحات متلاحقة من نتنياهو وبعض رموز اليمين المتطرف، بات هذا المفهوم أقرب إلى نهج دولة منظّم.
وهو مفهوم يتقلّص أو يتوسع بحسب الخطاب السائد في إسرائيل: بين رؤية «من النهر إلى البحر»، وهو شعار سياسي–أمني تبنّته قوى يمينية بعد 1967، ويُقصد به السيطرة على كامل الأرض بين نهر الأردن والبحر المتوسط (الضفة الغربية، القدس، غزة)، وبين الرؤية التوراتية الأوسع لما يُسمّى أرض الميعاد «من النيل إلى الفرات»، التي تُفسّر لتستحضر حدودًا أسطورية تمتد من النيل غربًا إلى الفرات شرقًا.
مشروع إيران الكبرى – الحكم عن بعد
مشروع إيران للسيطرة على الشرق الأوسط هو مشروع جيوسياسي، لا يهدف إلى احتلال الأرض، إنما إلى السيطرة على الحكم في عدد من دول المحيط العربي، وهو مبني على مرتكزين أساسيين:
• المرتكز التاريخي:
يقوم على أمجاد تاريخ الدولة الإيرانية التي برزت قبل اثني عشر قرنًا من ظهور الإسلام، حين فرضت سيطرتها على مناطق شاسعة شرقًا وغربًا. وقد اعتمدت إيران، في ظل الأنظمة المتعاقبة وفي ظل النظام الراهن، على مبدأ التعامل الفوقي مع العرب، منطلقة من العامل التاريخي الذي كانت لإيران فيه، في عهد الإمبراطورية الفارسية.
• المرتكز العقائدي:
استندت إيران الى المذهب الشيعي للتوغل إلى دول المنطقة، ومن هنا نشأ مفهوم “الهلال الشيعي”، الذي سمح لإيران بخلق او ظعم جماعات واحزاب وميليشيات تابعة لها في عدة دول عربية، وباتت تتحكّم بالسياسة الخارجية والداخلية لهذه الدول وفق ما يوافق أجندتها. وحيث لم تبسط سيطرتها عبر أذرعها، استغلت هذه الأذرع لزعزعة الاستقرار والسلم الأهلي وشَغْل الأنظمة في مشكلات داخلية مستمرة.
استراتيجية ترسيخ مفهوم إيران الكبرى
في كتابه «الإستراتيجية العظمى لإيران»، يقدّم فالي نصر قراءة لمفهوم «محور المقاومة»، بوصفه مشروعًا جيواستراتيجيًا متناميًا يسعى إلى إعادة صياغة موازين القوّة في الشرق الأوسط، خارج حدود الدولة القُطرية وأنماطها التقليدية.
ويبيّن نصر أن هذا المحور انطلق عبر بناء أدوات ردع غير متماثلة (خلايا وشبكات وميليشيات) سرعان ما تطورت مع الزمن إلى ما يشبه نظامًا إقليميًا موازيًا، له روايته الأيديولوجية الخاصة، ورموزه الفكرية، وأذرعه الإعلامية، وقوته العسكرية الممتدة من بغداد إلى صعدة، ومن دمشق إلى غزة.
يرى معارضوها أن إيران تمكّنت من التحكم بمصير الدول التي أوجدت فيها هذا النظام، عبر ما يمكن وصفه بقيادة غير مرئية، لكنها فعّالة، أشبه بقبضة ناعمة تُمسك بعصب القرار من دون أن تُقيّده علنًا. وأن القضاء على مشروع المقاومة الوطنية في لبنان وتهديد مشروعية الممثل الفلسطيني الشرعي، وما تلاه من تغييب أو غياب الشخصية الفلسطينية المحورية الممثلة للقضية، واستئثار حزب الله وحركة حماس بعبء وثمار مقاومة العدو الإسرائيلي، ساهم بترسيخ ما يُسمّى بمحور المقاومة كمحور ممتد مركزه في إيران.
ملتقى المشروعين
يلتقي المشروعان الإسرائيلي والإيراني، على الرغم من اختلاف منطلقاتهما، في مصلحة مركزية واحدة: تفتيت الواقع العربي. فكلما تعمّق الانقسام العربي، كلما ضَمِن الطرفان استمرار نفوذهما، واستحال على العرب تشكيل قوة إقليمية تهدّد مصالحهما.
بالنسبة إلى إسرائيل، يشكّل التفتيت الطائفي والمذهبي شرطًا أساسيًا لبقائها القوة الإقليمية الكبرى لعقود طويلة، خاصة مع الهزيمة التي تعرّض لها المحور الإيراني ما بعد السابع من أكتوبر. والانقسامات العربية والانقسامات الأهلية داخل كل دولة تسهّل تحقيق الحلم الصهيوني القديم بإسرائيل الكبرى، وتجعل من هذا الكيان الحديث النشأة كيانًا مستقرًّا ومرتاحًا في وجوده، بدلًا من كونه دولة قلقة في محيطها.
على الضفة الأخرى، وجدت إيران في الانقسامات المذهبية منفذًا مثاليًا للتمدّد والتغلغل في الساحات العربية. فهي تستثمر هذه الانقسامات للتحوّل إلى لاعب أساسي في ملفات العراق وسوريا ولبنان واليمن، عبر قوى محلية تدور في فلكها وتتغذّى من دعمها المالي والتنظيمي. ويساعد إيران على امتلاك أوراق عربية على طاولة المفاوضات وتقاسم النفوذ مع أميركا وإسرائيل.
المشروع العربي
رغم ما يظهر من تباين وصدام بين المشروعين، إلا أن كليهما يلتقيان ويتصارعان على هدف واحد: السيطرة على دول عربية بالاحتلال المباشر (مشروع إسرائيل الكبرى) أو باحتلال الإرادة والقرار (مشروع إيران الكبرى).
يبقى أن مواجهة أيٍّ من المشروعين لا تكون بالاستسلام للمشروع الآخر، بل بأن ندرك كشعوب وأنظمة وأفراد أن الاختيار بين أحد المشروعين ليس قدرًا.
لدينا القدرة الكاملة على تصدير مشروع عربي متكامل، يلجم النهم الوحشي الإسرائيلي بالسيطرة على المنطقة ويفرض قيام دولة فلسطينية ويحترم سيادة دول المنطقة، ويكبح أحلام النظام الإيراني بتصدير حكم نظام الثورة تحت عباءة المقاوم