بقلم بيار جاكمان في مجلة Politis
1. الأبعاد العسكرية والاستراتيجية
منذ الهجوم البري الإسرائيلي الذي أعقب عملية حماس في 7 أكتوبر 2023، تشهد غزة عملية تدمير بطيئة لكن منهجية، تستهدف ليس فقط البنية التحتية، بل الكيان الجغرافي والسياسي الفلسطيني ككل. فقد تحوّلت مدينة غزة من هدف عسكري إلى رمز استراتيجي: السيطرة عليها تمثل إعلانًا عمليًا عن نهاية وحدة الأرض الفلسطينية وبداية مرحلة تفكيك جغرافي–سياسي أوسع.
إسرائيل اعتمدت حرب الخرائط: تقسيم القطاع إلى مربعات أمنية، إنشاء ممرات عسكرية، “مناطق موت” ومناطق محظورة، في مسعى لا يقتصر على السيطرة، بل يهدف إلى جعل إعادة الإعمار مستحيلة، وفتح الطريق أمام ترحيل مستدام للسكان. بهذا المعنى، حصار غزة ليس غاية بحد ذاته بل خطوة في مشروع أوسع لنزع الملكية، قد يتبعه ضم فعلي للمناطق المتبقية.
2. الكارثة الإنسانية: من المجاعة إلى الانهيار الصحي
على الصعيد الإنساني، اعترفت الأمم المتحدة رسميًا بوقوع المجاعة في غزة، في تطور غير مسبوق في لغة الخطاب الدولي. وفق بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، يعاني آلاف الأطفال من سوء تغذية حاد، بينما تمنع المعابر وصول المساعدات. البحر – الذي شكّل يومًا متنفسًا للفلسطينيين – صار بدوره محاصرًا عسكريًا، ليجسد مأساة قطاع محاصر من كل الجهات.
الأزمة الصحية بدورها بلغت مستويات كارثية. أكثر من 36 مستشفى ومنشأة طبية تعرضت للقصف (منها مستشفى ناصر في خان يونس)، بحسب منظمة الصحة العالمية. الفرق الطبية تعمل بلا كهرباء ولا تخدير ولا ماء صالح للشرب، ما حوّل الطب من ممارسة علاجية إلى فعل بقاء أو مرافقة نحو الموت.
3. الإعلام كجبهة حرب موازية
منذ بداية الحرب، تحوّل الإعلام إلى ساحة صراع بحد ذاته. تشير التقارير إلى مقتل أكثر من 200 صحفي فلسطيني، ما يجعل هذا النزاع أحد أكثر الحروب دموية في تاريخ الصحافة الحديثة. الاستهداف المتكرر للصحفيين – كما في قصف مستشفى ناصر (25 أغسطس) الذي أودى بحياة المصوّرة مريم دقّة إلى جانب زملاء آخرين – يعكس استراتيجية منهجية لإسكات الشهود ودفن الحقيقة.
هذه السياسة لا تقتصر على غزة. في إسرائيل نفسها، تتزايد المعارضة الداخلية؛ مظاهرات في تل أبيب والقدس وحيفا تندد بالحرب وبالنهج السلطوي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، خصوصًا تحالفه مع أقصى اليمين الديني ومساعيه لتقويض استقلال القضاء. هذا التململ السياسي ترافق مع هجرة متزايدة للإسرائيليين، في ظاهرة تشير إلى أزمة ثقة داخلية عميقة.
4. البعد القانوني والدبلوماسي
رغم تراكم الأدلة على انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني، ظل الموقف الغربي متحفظًا. حتى مع صدور مذكرة توقيف تاريخية من المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لم تُترجم هذه الخطوة إلى إجراءات فعلية: لا عقوبات، لا تجميد أصول، ولا تحركات دبلوماسية نوعية. وهكذا يبقى القانون الدولي معلنًا لكنه بلا قوة إلزامية.
في المقابل، استغلت إسرائيل انشغال العالم بغزة لتكثيف الاستيطان في الضفة الغربية. فقد أقرّت الكنيست تسهيلات واسعة لصالح المستوطنين، بينما توثق منظمات إسرائيلية كـ بتسيلم و يش دين موجات جديدة من طرد القرى الفلسطينية، وتدمير المنازل، واعتقالات تعسفية، بل وعمليات قتل. هذه الحرب “الصامتة” تكشف البعد الأوسع: مشروع الضم الكامل لفلسطين التاريخية.
5. المقاومة المدنية والسردية العالمية
رغم حجم الكارثة، تواصل غزة تقديم أشكال متعددة من المقاومة المدنية. منظمات محلية تنظّم دروسًا للأطفال، تقدم الدعم النفسي، وتوزع المساعدات. الفنانون والكتاب والشعراء يوثقون المأساة ويحوّلونها إلى خطاب عالمي. هذه المبادرات تقترن بموجات تضامن دولي واسعة، من التظاهرات المليونية في العواصم الأوروبية والأمريكية إلى مواقف المثقفين والسياسيين الداعية لإنهاء الحصار والاعتراف بدولة فلسطينية.
الحرب إذن ليست فقط صراعًا عسكريًا أو أرقامًا في تقارير ضحايا. إنها حرب سرديات: ما يُقال وما يُمحى، ما يُوثّق وما يُحجب، وما يختاره العالم أن يراه أو يتجاهله. وفي هذه المعادلة، يصبح الصمت شكلًا من أشكال التواطؤ.
خلاصة
إن ما يجري في غزة ليس مجرد نزاع عسكري تقليدي، بل مشروع استراتيجي شامل يتجاوز السيطرة العسكرية إلى إعادة تشكيل الجغرافيا، وإعادة تعريف السكان كجماعة قابلة للمحو. الأبعاد العسكرية، الإنسانية، الإعلامية والقانونية كلها متداخلة في سياق منهجية نزع الملكية والإبادة البطيئة. في المقابل، تظهر المقاومة الفلسطينية –بأشكالها المدنية والثقافية– كعامل موازٍ يضمن استمرار الذاكرة والهوية، فيما يضع المجتمع الدولي أمام اختبار أخلاقي وجودي: هل سيبقى متفرجًا على محو شعب بأكمله، أم سيتحول إلى فاعل في إعادة الاعتبار للعدالة الدولية؟