سامي كليب:
فَقَد الكثيرُ من شعوب ونُخبِ العرب ثقتَهم بكلِّ المبادرات السياسيّة، وفقدوا أكثر ثقتهم بالنظام الرسمي العربي وبأمة الملياري مُسلم لنصرة فلسطين، وفقدوا كذلك ثقتَهم بمواقف الدول الغربيّة حيال شعبٍ يُباد لأنه يُريد الحريّة ودولة كأيّ شعبٍ آخر في العالم. فالانحياز الأعمى الذي ساد لفترة طويلة الخطاب السياسيّ الغربيّ والإعلامَ في دول الغرب بعد 7 أكتوبر 2013، كان مُريبًا ومُقزّزًا.
صحيح أنَّ حماس هي التي بادرت إلى فتح معركة طوفان الأقصى وقتلت مدنيّين وأبرياء إلى جانب العسكريّين، و وأنّها على الأرجح لم تحسب أنَّ نتنياهو سيردّ بحربِ إبادةٍ شاملة، لكن الصحيح أكثر هو أنَّ حربّ الإبادة مستمرّة منذ 77 عامًا ولم تبدأ بعد ” طوفان الأقصى”، وتغافل عن ذلك معظم ساسة وإعلام العالم الغربي، وصار كلُّ فلسطيني مُتَّهما حتَّى يُثبتَ العكس، ومُتّهمًا، حتّى لو أثبتَه.
لكنَّ الضمائرَ تحرّكت أولاً شعبيًّا، ثم على مستوى النُخب، وثالثًا داخل الأحزاب والمستويات السياسيّة العُليا في الغرب، بعد أن انتشرت صورُ الهولوكوست الجديد من غزّة، حيث الأطفال يئِنّون جوعًا حتَّى الموت، والأمَّهات يُصارِعنَ الموت والقهرَ والمرضَ والذلَّ دون جدوى، والرجال يُقتلون وهم في طريقهم للحصول على بعضِ فُتاتِ الخُبز من المَصيدة القاتلة، أيّ منظمة الإغاثة الإنسانية، التي تولّاها رجالُ مخابرات إسرائيليّون وأميركيّون، ومعهم مُرتزقة.
تحرّكت الضمائر، فاستقال وزير خارجية هولندا بسبب رفض حكومته المؤقّتة اتخاذَ إجراءاتٍ إضافية ضدَّ إسرائيل، وصاحَ رئيسُ وزراء إسبانيا، أنَّ إسرائيل باتت ” دولةَ الإبادة” ( مع الإشارة إلى أنَّ إسبانيا كانت سبّاقة في رفض الإبادة)، وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنَّ تصريحات نتنياهو ” خسيسة”، وصرخ وزيرُ خارجية دولةِ وعد بلفور، بريطانيا : ” أنّ المجاعة في غزّة عملُ عديم الأخلاق ” من قبل إسرائيل، وتوالت الإجراءات العقابية ضد حكومة نتنياهو وصحبِه المتطرِّفين العنصريّين الدمويّين ، فأوقفت دولٌ غربيّة عديدة شحنَ الأسلحة، وفرضت دولٌ أخرى عقوباتٍ على مستوطنين، وأصدرت 24 دولة غربية بيانًا ترفض فيه خطة A1 الاستيطانيّة الجديدة في الضفّة الغربيّة، والتي تقطعُ شمالَ الضفّة عن جنوبِها، وتُمعن في تقطيع أوصال الضفّة كي تُصبح غير قابلة لإقامة أيّ دولة.
لعلّك عزيزي القارئ لاحظتَ أنَّ في هذه المعمعة، وفيما يُشارف جيش الاحتلال على احتلال كلّ غزّة، طارَ الرئيس المصريّ عبد الفتّاح السيسي إلى مدينة ” نيوم” السعوديّة للقاء وليّ العهد الأمير محمَّد بن سلمان. هذا ليس لقاءً دوريًّا ولا عابرًا، ولا يمكن أن يكون فقط للعلاقات الثنائية، بل هو ينطلق من القلق على الأمن القومي العربي المُتفاقِم من الشرق الأوسط إلى منطقة البحر الأحمر وصولاً الى سيناء والحدود المصريّة الفلسطينيّة. فنتنياهو المدعوم من ترامب حتّى الآن، لم يتراجع بعد عن خطّة تهجير أبناء غزّة قسرًّا، ويريد فرض معادلاتٍ جديدة على الدول العربيّة، وهو يتباهى بأنّه انتصر على 7 جبهات من لبنان حتّى إيران.
لم يكن تدمير الجيش السوريّ، أي الجيش الأول بالنسبة لمصر منذ أيام الوحدة، أمرًا عابرًا. والذين هلّلوا لذلك، يجهلون أنَّ نتنياهو بذلك لم يكن يستهدف انهاء ما بقي من النظام السوري السابق، بل تدمير قاعدة عسكرية كُبرى عند حدودِه مهمّةً للأمن القوميّ العربيّ، بغضّ النظر عن الانتماء السياسيّ للنظام السابق.
سارعت السعوديّة إلى محاولة احتواء الوضع. فتح الأميرُ محمّد بن سلمان الطريق أمام الرئيس الجديد أحمد الشرع فجَمَعَه في الرياض بالرئيس ترامب، ثم أعلنت السعودية عن ضخ 6 مليارات دولار في سورية، في سعيّ ضمني لدفع دمشق أكثر صوب الخيار العربي، والتحلّل قدر الإمكان من القبضة التُركيّة، والسعي لصد التغوّل الإسرائيلي.
وفيما كانت المبادراتُ لوقف إطلاقِ النار في غزّة والانتقال إلى حل سياسيّ، تفشلُ الواحدُ تلوَ الأخرى، فاجأت الرياض الجميع، بإعلانها مع فرنسا عن مؤتمر لحلّ الدولتين في نيويورك، وتوسيع قاعدة الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة. أُرجئ المؤتمر بسبب الحرب الإيرانية الأميركية الإسرائيلية، ثم حُدِّد موعدٌ جديدٌ له في شهر أيلول/ سبتمبر المُقبل.
وفي كلِّ القِمم العربيّة والإسلاميّة التي عُقدت في مصرَ أو السعوديّة، وفي كلِّ الخطابات والمقابلات التي أجراها الأمير بن سلمان ووزيرُ خارجيته الأمير فيصل بن فرحان وغيرُهما، كان تشديدٌ على أنَّ لا تطبيع للعلاقات مع إسرائيل، قبل أيجاد حلّ للقضيّة الفلسطينية وإقامة الدولة العتيدة.
هذا الموقف السعوديّ ساند بقوّة رفضَ القاهرة وعمّان فتحَ الحدود لاستقبال المُهجّرين قسرًا. وبات يُشكّل السدّ الأخير في المنطقة أمامَ نتنياهو الذي كان حتّى الأمس القريب يقول مع حليفه ترامب، إنَّ دولاً عربيّة جديدة ستنضمُّ قريبًا إلى التطبيع وكانت العيون شاخصةً صوب الرياض.
تقتضي البراغماتيّة السياسيّة والمصالح السياسيّة والاقتصاديّة، مرونةً دبلوماسيّة كُبرى في هذه الأوقات العربيّة العصيبة، ولن تستطيع هذه الدول العربيّة، أي السعودية ومصر والأردن لوحدها مواجهة تسونامي ترامب-نتنياهو، لذلك كان الاتجاه نحو تعزيز العلاقة مع ترامب، لكن في الوقت نفسه نحو توسيع دائرة الصدّ، من خلال البحث عن تحالفاتٍ عربيّة أوروبيّة تساندُها بشكلٍ مباشر أو غيرِ مباشر الصين وروسيا ودول أميركا اللاتينيّة وافريقيا في سياق دعم حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية.
فرصةٌ لن تتكرّر
الوقت مناسبٌ تمامًا الآن لتصليب الموقف العربيّ، مع انقلاب الراي العام العالمي، حيث تؤكد استطلاعات الرأي الموثوقة ( PEW، Gallup ، IFOP وغيرها) أنَّ أكثر من 60 بالمائة من الرأي العام الغربي صار مناهضًا لسياسة الإبادة، وأنّ أحزاب اليمين في أوروبا المؤيّدة تاريخيًّا لإسرائيل بدأت تشهد تغييراتٍ جوهرية، وكذلك الأمرُ في صفوف الانجيلييّن الصهاينة في الولايات المتحدة (وهو تيّار كبير يضم أكثر من 100 مليون شخص في أميركا ومحيطها وافريقيا وغيرها).
يُضافُ إلى ذلك أنَّ 75 % من دول العالم باتت مؤيدة قيام دولة فلسطينية، وفق آخر مؤتمر في الأمم المتحدة، حيث وافقت 174 دولة من أصل 193 دولة عضو في المنظّمة الدوليّة على الاعتراف بدولة فلسطين.
في هذا الوقت بالذات، تذهب السعوديّة وفرنسا، ومن خلفهما دولٌ عربيّة وأوروبيّة وافريقيّة وآسيوية وعالميّة كثيرة، إلى مؤتمر نيويورك لطرح مشروع حلّ الدولتين. وسنكون أمامَ احتمالين: إمّا تنجح واشنطن واللوبيات المؤيّدة لإسرائيل في ممارسة ضغوطها، وينجح ترامب في فرض بلطجته على تلك الدول لضرب المؤتمر، أو ينجح الخِيار الآخر بقيادة السعودية وفرنسا في التأسيس لمشروع الخروج من النفق المُظلّم في فلسطين والمنطقة.
يحتاجُ الموقف السعوديّ في هذه اللحظات العربيّة القاسية والحاسمة، إلى دعمٍ عربيّ كبير، فهو يستطيع من خلال ذلك الدخول إلى مؤتمر حلِّ القضّية الفلسطينيّة بزخمٍ وثقة بالنفس وقدرة على المناورة لو كان خلفه أجماعٌ عربيّ، وهذا سيكون حتمًا في صالح فلسطين، وهذا هو السبيل الوحيد كي يشعر ترامب أنَّ لا مجال للاستمرار بهذا الدعم الأعمى لدول الإبادة، وانَّ ذلك سيكون في مصلحة فلسطيني، ولكن أيضًا في مصلحة إسرائيل إذا كانت تُريد ان تعيش بسلامٍ مع العرب، لا أن تستمر بلغة البطش والدماء والدمار التي ستنتهي عاجلاً أم آجلاً بتدميرها هي من الداخل أو من خلال اختراق الكتروني كبير قد ينجح به أحد خصومها، مهما وقف إلى جانبها العالم الغربيّ باسره.
ليس مطلوبًا أن تُحبَّ السعوديّة أو تكرهها، لكن المطلوب أكثر الآن، أن تُفكّر بالحلّ الأنجع لقضّية فلسطين، بعد سقوط كل المحاولات والمغامرات والاستراتيجيات الأخرى. ثمة فرصة يجب انتهازُها كي لا تضيع فلسطين، ويقف العرب كأمّة في طور الانقراض، يتفرّجون على تدمير آخر أملٍ.