قراءة في السياسة البحرية المعاصرة (Thalassopolitique)
يطرح تصاعد حوادث احتجاز ناقلات النفط، واستهداف السفن التجارية، والتوترات في الممرات البحرية الاستراتيجية، سؤالًا جوهريًا:
هل دخل العالم طورًا جديدًا من الحروب البحرية، أم أننا أمام إعادة تفعيل لأدوات قديمة بصيغ حديثة؟
للإجابة، لا بد من العودة إلى مفهوم ا”لسياسة البحرية” Thalassopolitique، وهو مفهوم مركزي في الجيوبوليتيك، ويُعنى بدراسة دور البحار والمحيطات في توازنات القوى العالمية، من حيث السيطرة على طرق الملاحة، نقاط الاختناق البحرية، التجارة الدولية، وتدفق الموارد الاستراتيجية، وفي مقدّمها الطاقة.
اولا: الجذور النظرية: ألفرد ماهان وسيادة البحار
يُعدّ الأدميرال الأميركي ألفرد ثاير ماهان (Alfred Thayer Mahan) من أبرز منظّري القوة البحرية في أواخر القرن التاسع عشر.
في نظريته الشهيرة حول “قوة البحر”، شدّد ماهان على أن:
> من يسيطر على البحار، ولا سيما الممرات الحيوية ونقاط الاختناق، يملك القدرة على التحكم بالتجارة العالمية، وبالتالي بالموارد والنفوذ السياسي والاقتصادي.
هذه الرؤية لم تكن تنظيرًا مجردًا، بل شكّلت أساسًا لبناء الأسطول الأميركي وصعود الولايات المتحدة كقوة عالمية، ولا تزال إلى اليوم حاضرة في استراتيجيات القوى الكبرى، وإنْ بوسائل أكثر تعقيدًا وأقل صدامية.
ثانيا: من المعركة البحرية إلى “إدارة الصراع البحري”
ما نشهده اليوم لا يندرج ضمن حرب بحرية كلاسيكية بين أساطيل متقابلة، بل ضمن نمط جديد من الصراع يمكن توصيفه بـ:
حروب العقوبات البحرية مثل الاستيلاء القانوني–الأمني على السفن بالإضافة الى الضغط الجيو-اقتصادي عبر البحر . وفي هذا الإطار، تأتي احتجاز الولايات المتحدة لناقلات نفط مرتبطة بفنزويلا، باعتبارها جزءًا من شبكات التفاف على العقوبات وتمويل أنشطة تُصنّفها واشنطن “غير قانونية”.
بالمقابل، ترى فنزويلا وحلفاؤها في هذه الإجراءات شكلًا من القرصنة المقنّعة وتوظيفًا للقانون الدولي لخدمة ميزان القوة.
ثالثا: إيران والردّ بالمثل: البحر كساحة سيادة
التوتر الأميركي–الإيراني يقدّم مثالًا أوضح على منطق “الردّ بالمثل” في السياسة البحرية.
فمصادرة إيران لناقلات غربية في خليج عُمان أو مضيق هرمز لا تُفهم فقط كحوادث أمنية، بل كرسائل استراتيجية مفادها أن:
> السيطرة على نقاط الاختناق البحرية ليست حكرًا على قوة واحدة، وأن أي ضغط بحري سيُقابَل بضغط مماثل.
وهكذا يتحوّل البحر من فضاء مفتوح للتجارة إلى مساحة تفاوض قسري بين القوى المتصارعة.
رابعا: البحر الأسود: عسكرة الملاحة في ظل حرب غير بحرية
وفي سياق الحرب الروسية–الأوكرانية، شهد البحر الأسود استهداف ناقلات نفط وسفن روسية باستخدام مسيّرات بحرية.
هذه العمليات لا تعني قيام حرب بحرية شاملة، لكنها تعكس تصدّع أمن الملاحة، استخدام البحر كامتداد للصراع البري وتوظيف أدوات غير تقليدية لفرض كلفة اقتصادية على الخصم.
فكيف نقرأ كل ذلك؟
ما يجري اليوم هو ترجمة عملية لنظريات قديمة بأدوات جديدة: بحيث لم تعد السيطرة على البحر تعني احتلاله عسكريًا، بل التحكم بقواعد المرور فيه: النفط والتجارة تحوّلا إلى ساحات صراع بحد ذاته، والقانون الدولي أصبح جزءًا من الصراع، لا حكمًا محايدًا له.
من هذا المنظور، يمكن القول إننا أمام مرحلة متقدّمة من السياسة البحرية المعولمة، حيث تُدار الصراعات بعيدًا عن المعارك المباشرة، وعلى مقربة دائمة من شفير التصعيد.
بالختام، ما يحدث اليوم ليس فوضى بحرية عابرة، بل جزء من لعبة جيوسياسية وجيو-اقتصادية كبرى، لا تُدار إلا على طاولات كبار اللاعبين.
وفي هذا السياق، تبقى أفكار ماهان حاضرة في الجوهر، وإن تغيّرت الأدوات:
فمن يملك مفاتيح البحار، يملك القدرة على خنق الخصم… أو التفاوض معه من موقع القوة.
