ليست جيبوتي بلداً يُقاس بحجمه على الخريطة، بل بثقله في الجغرافيا السياسية للعالم. عند خاصرة البحر الأحمر، حيث يضيق الممر وتتزاحم السفن وتتقاطع مصالح القوى الكبرى، تقف هذه الدولة الصغيرة كحارس صامت لأحد أهم شرايين التجارة الدولية. هنا، لا تكون الصحراء فراغاً، ولا البحر حدوداً، بل عناصر قوة صاغت هوية بلد عرف كيف يحوّل موقعه القاسي إلى فرصة، والعزلة الطبيعية إلى حضور دائم في حسابات السياسة والاقتصاد والأمن. نقترب من جيبوتي بعيداً عن الصور النمطية، لنقرأ حكاية أرض شديدة الحرارة، ودولة شديدة البرودة في حساباتها، وشعب تشكّلت ملامحه بين البحر والصحراء.

جيبوتي… حيث تلتقي القارات والبحار
تقع جيبوتي في موقع جغرافي بالغ الحساسية، عند مدخل البحر الأحمر الجنوبي، على مضيق باب المندب الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندي. تحدّها إريتريا شمالاً، وإثيوبيا غرباً وجنوباً، والصومال جنوباً شرقياً، فيما تشرف بسواحلها على واحد من أكثر الممرات البحرية ازدحاماً في العالم. هذا الموقع جعلها منذ قرون محطة عبور، ومركز مراقبة، وعقدة وصل بين أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.

طبيعة قاسية وجمال جيولوجي فريد
تتميّز جيبوتي بتضاريس صحراوية وبركانية قاسية، لكنها تخفي في باطنها وسطحها مشاهد طبيعية نادرة. تنتشر الهضاب البركانية، والسهول المالحة، والبحيرات الجيولوجية الفريدة، أبرزها بحيرة عسل، أخفض نقطة في أفريقيا، والتي ترتفع فيها نسبة الملوحة إلى مستويات مذهلة. كما تضم البلاد أخاديد وصخوراً سوداء تشهد على تاريخ جيولوجي عنيف شكّل ملامحها الحالية.
مناخ شديد… وصبر إنساني طويل
يسود جيبوتي مناخ صحراوي حار، تُعدّ درجات حرارته من الأعلى عالمياً، خصوصاً في الصيف حيث تتجاوز الأربعين درجة مئوية بشكل منتظم. الأمطار شحيحة وغير منتظمة، ما جعل التكيف مع البيئة جزءاً من هوية السكان. ورغم قسوة الطقس، طوّر الجيبوتيون أنماط حياة متوازنة مع الطبيعة، قائمة على الصبر، والترحال التاريخي، والاعتماد على البحر والتجارة.
عدد سكان قليل وتنوّع ثقافي لافت
يبلغ عدد سكان جيبوتي نحو مليون نسمة، يتركز معظمهم في العاصمة التي تحمل اسم الدولة. يتكوّن النسيج السكاني أساساً من قوميتي العفر والصوماليين (العيسى)، مع أقليات عربية وإثيوبية. هذا التنوع انعكس في اللغات المتداولة، حيث تُستخدم العربية والفرنسية كلغتين رسميتين، إلى جانب الصومالية والعفرية في الحياة اليومية.

من الاستعمار إلى الدولة المستقلة
دخلت جيبوتي التاريخ الحديث تحت الحكم الفرنسي في أواخر القرن التاسع عشر، وحملت اسم “الصومال الفرنسي” ثم “إقليم العفر والعيسى”. وبعد استفتاءات متتالية، نالت استقلالها عام 1977، لتولد دولة حديثة في منطقة مضطربة. ومنذ الاستقلال، حافظت البلاد على نظام سياسي رئاسي قوي، اتسم بالاستقرار النسبي مقارنة بجوارها الإقليمي المضطرب.

سياسة متوازنة في محيط ملتهب
تنتهج جيبوتي سياسة خارجية براغماتية، قائمة على الحياد الإيجابي، وبناء العلاقات مع مختلف القوى الدولية. وقد مكّنها هذا النهج من لعب دور الوسيط أحياناً، ومن ترسيخ صورتها كواحة استقرار في القرن الأفريقي، رغم التحديات الداخلية والضغوط الاقتصادية.

اقتصاد الموانئ والخدمات
يعتمد الاقتصاد الجيبوتي بشكل أساسي على موقعه الاستراتيجي، إذ يشكّل ميناء جيبوتي شرياناً حيوياً للتجارة الإقليمية، خصوصاً لإثيوبيا التي لا تطل على البحر. كما استفادت البلاد من الاستثمارات الأجنبية في مجالات الموانئ، والخدمات اللوجستية، والنقل، والطاقة. ورغم محدودية الموارد الطبيعية، تحاول الحكومة تنويع الاقتصاد عبر مشاريع بنى تحتية كبرى.

عاصمة القواعد العسكرية العالمية
تُعدّ جيبوتي واحدة من أكثر الدول استضافةً للقواعد العسكرية الأجنبية في العالم. إذ تنتشر على أراضيها قواعد لفرنسا، والولايات المتحدة، والصين، واليابان، وغيرها، ما يعكس أهمية موقعها في معادلات الأمن الدولي ومكافحة القرصنة وحماية طرق التجارة. هذه القواعد تمثل مورداً مالياً مهماً للدولة، لكنها في الوقت نفسه تضعها تحت مجهر التوازنات الدولية الدقيقة.

ثقافة شعب… بين البحر والصحراء
يحمل المجتمع الجيبوتي ثقافة غنية تشكّلت من تفاعل الصحراء مع البحر. الموسيقى الشعبية، والرقصات التقليدية، والشعر الشفهي، تشكّل ركائز الهوية الثقافية. كما تحتل القهوة العربية مكانة خاصة في الحياة الاجتماعية، إلى جانب المطبخ المحلي المتأثر بالمطبخ العربي والقرن الأفريقي معاً.

سياحة مختلفة… لمن يبحث عن الاستثنائي
ليست جيبوتي وجهة سياحية تقليدية، لكنها كنز لعشّاق الطبيعة غير المألوفة. من الغوص في خليج تاجورة، حيث يمكن مشاهدة أسماك القرش الحوتية، إلى زيارة بحيرة عسل، وسهول لاك أبّه البركانية، وجبال غودا ذات المناخ الأكثر اعتدالاً. هي سياحة قائمة على المغامرة والاكتشاف، بعيداً عن الزحام والأنماط الكلاسيكية.

جيبوتي… دولة أصغر من حجمها الجغرافي
قد تبدو جيبوتي نقطة صغيرة على الخريطة، لكنها في ميزان السياسة والاقتصاد العالمي أكبر بكثير من مساحتها. هي مثال حي على كيف يمكن للموقع أن يصنع الدور، وللذكاء السياسي أن يحوّل التحديات إلى فرص. وبين حرارة المناخ وبرودة الحسابات الدولية، تواصل جيبوتي تثبيت موقعها كرقم صعب في معادلات القرن الأفريقي والعالم.
